هل من مخرج في اليمن ينهي عذابات ملايين الناس ويساهم في رسم بداية النهاية لمأساة إنسانية لا سابق لها في التاريخ الحديث؟ يطرح هذا السؤال نفسه بقوّة في وقت توحي تحركات مارتن غريفيث مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن بوجود بوادر تسوية. ذهب غريفيث إلى صنعاء وأجرى محادثات عبر قناة تلفزيونية مغلقة مع عبدالملك الحوثي زعيم “أنصار الله”.
ليس ممكنا بالطبع لعبدالملك الحوثي الخروج من المكان الذي يقيم فيه. عليه البقاء مختبئا كي لا ترصده طائرات التحالف العربي، وهو تحالف يعمل من أجل إفشال المشروع الإيراني في اليمن. هذا ما يفسّر عقده لقاءات مع غريفيث عبر القناة التلفزيونية المغلقة. اعتمد هذا الأسلوب في الماضي مع علي عبدالله صالح وذلك في الأشهر التي سبقت اغتيال الرئيس اليمني السابق بأوامر من زعيم “أنصارالله” نفسه في الرابع من كانون الأول – ديسمبر الماضي.
ليس سرّا أن عبدالملك الحوثي، الذي ينتمي إلى مدرسة فكرية ومذهبية معروفة، يستخدم أسلوب الدهاء الذي انطلى على علي عبدالله صالح مثلما انطلى على غيره في مكان آخر غير اليمن. يتظاهر باللياقة واللطف والدبلوماسية، في حين يعدّ فخّا للشخص الذي هو في حوار معه. فما الذي يعدّه لغريفيث الذي استطاع ممارسة ضغوط على التحالف العربي من أجل وقف الحملة العسكرية الهادفة إلى تحرير الحديدة؟
كانت النتيجة أن الحوثيين استفادوا، مرّة أخرى، من شبه الهدنة في الحديدة لتعزيز قواتهم والتغلغل في أحياء المدينة بغية تحويل الحرب فيها إلى حرب شوارع، أو حرب عصابات، بدل أن تكون حرب مواقع يسهل على طائرات التحالف العربي قصفها.
زار غريفيث الحديدة أيضا وذلك قبل انتقاله إلى الرياض للقاء ممثلي “الشرعية” التي لا يزال على رأسها الرئيس الانتقالي عبدربّه منصور هادي. تأتي تحركاته في وقت لا يزال الحوثيون يسيطرون على الحديدة وعلى مينائها الاستراتيجي، وذلك على الرغم من التقدم الذي حققته على الأرض القوات “الشرعية” المدعومة من لواء العمالقة و”حراس الجمهورية”.
يسعى المبعوث الأممي، استنادا إلى ما يصدر عنه وإلى أوساط تتابع تحركاته، إلى جعل الحديدة تحت سيطرة الأمم المتحدة. يمكن تفسير ذلك برغبته في جعل المساعدات الإنسانية تمرّ بسهولة عبر الميناء، وذلك من دون التطرّق إلى المشكلة الأساسية التي تتلخص بدور الحوثيين مستقبلا. ثمّة من يقول إن لدى مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة أجندة خاصة به مرتبطة بالحديدة كميناء مهم على البحر الأحمر والقوة الدولية أو الجهة المحددة التي ستسيطر عليه مستقبلا.
الأكيد، أقلّه إلى الآن، أن مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة خدم الحوثيين الذين يعرفون تماما أن انتزاع الحديدة منهم ستكون له انعكاسات في غاية الأهمية بالنسبة إلى الصيغة التي سيستقر عليها الوضع اليمني مستقبلا. هناك فارق كبير بين مفاوضات تجري فيما الحوثيون يسيطرون على الحديدة، وأخرى تدور فيما هم خارجها.
لماذا يصرّ غريفيث إذا على توفير ما يطلبه منه الحوثيون الذين يراهنون على كسب الوقت قبل أيّ شيء آخر؟ الجواب قد يكون في أن لديه رغبة في الوصول إلى مرحلة يصبح فيها اليمن كيانات عدّة أحدها تحت سيطرة الحوثيين، تماما كما حال قطاع غزّة الذي أقامت فيه “حماس” إمارة خاصة بها.
ما نشهده حاليا في اليمن يتمثل في تراجع المشروع الإيراني. فبعد سيطرة “أنصارالله” على صنعاء في الواحد والعشرين من أيلول – سبتمبر 2014، انطلقوا في كلّ الاتجاهات إلى أن وُجد من يخرجهم من عدن ومن ميناء المخا، الذي يتحكم بمضيق باب المندب، وينقل المعركة إلى الحديدة. المؤسف أن الوضع في تعز ما زال يراوح مكانه منذ ما يزيد على أربع سنوات. قد يكون ذلك عائدا إلى أن الإخوان المسلمين، الذين لديهم ثقل في المدينة ومحيطها، مرتبطون بنوع من الحلف غير المعلن مع الحوثيين. يعود ذلك إلى أنّهم يجدون لنفسهم مكانا في إطار صيغة يمنية يكون فيها لـ“أنصارالله” كيانهم.
في النهاية، أين تصبّ جهود مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة؟ إذا كان مطلوبا الوصول إلى صيغة تؤدي إلى قيام كيان حوثي تتحكّم به إيران، على غرار قطاع غزّة، فإن خريطة الطريق التي سار عليها حتّى الآن ستؤدي إلى هذه النتيجة. في كلّ يوم يمرّ، نجده يقدّم مزيدا من الخدمات إلى الحوثيين وكأنه مطلوب في نهاية المطاف وضع الحديدة تحت مظلّة الأمم المتحدة وقوى أخرى تريد أن يكون الميناء أقرب إلى وضع جيبوتي حيث هناك وجود عسكري لقوى عدة في مقدمها الولايات المتحدة وفرنسا.
مرّة أخرى لن تكون الأخيرة، لا يمثل الحوثيون شمال اليمن كلّه. لا يستطيع أحد تجاهل وجودهم. إنّهم جزء من النسيج اليمني. عانوا من ظلم وحرمان في الماضي. لكن حصر تمثيل اليمن الشمالي بهم لن يؤدي سوى إلى مزيد من التعقيدات. لعلّ الدليل على ذلك أن وضع “أنصارالله” لم يعد مرتاحا مع كلّ القبائل الشمالية، بمن في ذلك “قبائل الطوق” التي ساعدتهم في تطويق علي عبدالله صالح في صنعاء تمهيدا لاغتياله في مثل هذه الأيّام من العام الماضي.
الأكيد أن إعادة تشكيل “الشرعية” في مرحلة معيّنة ستساعد في إجراء مفاوضات تقود إلى نتيجة إيجابية مستقبلا. هذا يعني في طبيعة الحال إيجاد صيغة تؤمن قيام دولة فيدرالية أو كونفيدرالية في اليمن. لكنّ ما هو أكثر من أكيد أن قيام كيان حوثي هو بمثابة دعوة إلى مزيد من الحروب في بلد استفاقت فيه كل الغرائز المذهبية والقبلية والمناطقية في السنوات القليلة الماضية، أي منذ سعى الإخوان المسلمون إلى تنفيذ انقلاب على علي عبدالله صالح في العام 2011. فقبل العام 2011، كان يصعب التفريق بين الزيدي والشافعي في اليمن. الآن، صار طبيعيا التفريق بين الزيدي الذي يدعم الحوثي، والزيدي الذي لا يزال ملتزما المبادئ التي قام عليها المذهب أصلا.
ما يفترض أن يبقى في ذهن الذين يسعون إلى تسوية ما في اليمن أن الحوثيين لا يمتلكون أي مشروع لدولة عصرية. إنّهم يمثلون التخلف بكل أشكاله. يكفي النظر إلى المدارس والبرامج التعليمية التي يفرضونها على اليمنيين المقيمين في مناطقهم للتأكد من ذلك.
بكلام أوضح، لا مفرّ من جعل الحوثيين جزءا من الحلّ، لكن الحلّ لا يكون بعمل كلّ شيء من أجل أن يكون لهم كيان سياسي خاص بهم في اليمن، وذلك في مقابل تخليهم عن الحديدة للأمم المتحدة أو لإشراف دولي ليس معروفا هل سيكون دوليا أم لا.