وداعاً دي ميستورا... وداعاً القرار 2254... هكذا نطق وليد المعلم باسم سيده بشار الأسد. ولا جديد في الأمر، فالنظام الذي أفشل مهمات مبعوثين أمميين ثلاثة لم يرد منذ البداية حلاً سياسياً، ومثله النظام الإيراني الذي لا يزال يستثمر في المحنة السورية وينجز مخططاته. أما حليفهما الروسي فكان حلّه المفضّل يستند على الدوام إلى وجود الأسد ونظامه. وحين تخطو دمشق نحو عرقلة تشكيل اللجنة الدستورية أو تجميده، فإنها تنفذ أجندة خفيّة لموسكو أو توفّر لها ورقة مساومة مع الدول الغربية.
أكثر من سبب لهذه الخطوة: أولاً، انتهت مهمة ستيفان دي ميستورا ولم يعد مفيداً التعاون معه، وكانت موسكو استغلّت سوء إدارته كما استغلّت تقلبات السياسة الأميركية في الإدارتَين المتعاقبتَين لضرب مفاوضات جنيف وإفراغ القرار 2254 من أي مضمون يشير إلى «الانتقال السياسي».
ثانياً، قدّر النظام أنها اللحظة المناسبة للتخلّص من إشراف الأمم المتحدة على إنهاء الأزمة السورية، وأن فترة اختيار مبعوث أممي جديد وجهوزه للعمل يجب أن تُستغَلّ لتغيير الوقائع والمعطيات التي يراد للحل السياسي أن يستند إليها. ثالثاً، بعدما قال الوزير المعلم أن اللجنة «شأن سيادي» أشار إلى أن دول «مسار آستانة» الثلاث يمكن أن تتفق على اللائحة الثالثة لأعضاء اللجنة الدستورية (تضم مستقلّين ونشطاء لمجتمع المدني) وتقدّمها إلى الأمم المتحدة، أي أن «السيادة» مصانة مع تلك الدول، خصوصاً إذا رضخت تركيا لتوافق روسيا وإيران. وهذا يبطن نيّة لم تتخلَّ عنها لاطاحة «مسار جنيف» نهائياً والاستفراد بفرض عناصر الحل.
يبرمج النظام تمنّياته لتتّسق مع أهداف روسية وإيرانية معلنة أو مبيّتة. لذلك، يعوّل في مسألة الدستور على تفاهمات خاصة مع حليفيه، ولا يزال يفضّل إبقاء دستور عام 2012 مع بعض التعديلات، أما إذا أُريد للجنة الدستورية أن تنكبّ على كتابة دستور جديد فإن النظام يسعى إلى الحصول على ثلثَي اللجنة (لائحته ولائحة المستقلّين) ومن المعروف أن لائحة المعارضة مخترقة من جانب «منصة موسكو» وبعض «منصة القاهرة». كانت موسكو استطاعت الترويج للتفاوض على الدستور باعتباره تفاوضاً على «انتقال سياسي» عبر انتخابات يمكن الأسد الترشّح فيها، وهذا ما قُدِّم غالباً بصيغة أن «مصير الأسد مرتبط بإرادة الشعب السوري»، لكن المتعارف عليه أن هذا المبدأ كان دائماً مطّاطاً وغامضاً أو مجرد مخرج لفظي لئلا يقال أن مواقف الأطراف متباعدة، لذا تبنّته القمة الرباعية الأخيرة في إسطنبول. أما العقدة الأبرز في كتابة الدستور فتتعلّق بصلاحيات الرئيس واقتراح تقليصها ونقل معظمها إلى رئيس الحكومة، وبدهي أن النظام يرفض تعديلاً كهذا، كذلك الروس والإيرانيون، ما يفسّر الضغط للحصول على الثلثين وأكثر. ويلفت كثر من الخبراء إلى أن الصوغ العائم للصلاحيات الرئاسية أفسد طريقة تطبيقها، وقد أدّى النمط السلطوي الذي كرّسه نظاما الأسد الأب ثم الابن إلى استحواذ حاكم فرد على كلّ الصلاحيات والتصرّف بها وفقاً لمفاهيمه ومزاجه الاستبدادي.
كانت ردود الفعل الدولية على رفض النظام أي دور للأمم المتحدة في تشكيل اللجنة الدستورية ضعيفة وشكلية، لكنها انطوت على أمرَين: أولهما، إدراك الجميع أن تفاهم الدول المعنية، لا سيما الولايات المتحدة وروسيا هو ما سيحكم عمل اللجنة الدستورية أياً تكن تشكيلتها، فهي أصبحت منطلق الحل السياسي ومحوره.
والثاني، أن نظام دمشق يحاول اللعب على التناقضات المستجدّة في شأن الحل السياسي سواء بين روسيا وأميركا من جهة، أو بينها وبين دول «المجموعة المصغّرة» التي تضمّ إلى أميركا كلّاً من فرنسا وبريطانيا وألمانيا والسعودية والأردن. لكن أحداً لا يعتقد أن نظام دمشق هو الذي يمكن أن يحسم موقف روسيا أو يؤثّر فيه على نحو حاسم. وقد ظهر عدم الاهتمام بما أبلغه وليد المعلم إلى ستيفان دي ميستورا خلال القمّة الرباعية في إسطنبول، إذ لم يشر إليه أي من المشاركين، باستثناء فلاديمير بوتين الذي قال أنه سيستشير النظام و «الحلفاء الإيرانيين» الذين نوّه بـ «أهمية دورهم» في الحل.
يريد النظام والإيرانيون حالياً إقناع الحليف الروسي بأن الأزمة دخلت مرحلة جديدة تتطلّب أفكاراً جديدة، منها العودة إلى التشاور الدولي للتوصّل إلى تصوّر آخر مشترك، على غرار التشاور الذي حصل في فيينا وأفضى أواخر عام 2015 إلى القرار 2254 الذي أدّى في نظرهم إلى إضعاف مفاهيم «بيان جنيف» للحل السياسي. وينطلق النظام والإيرانيون في طرحهم هذا من جملة متغيّرات أهمها أن المعطيات على الأرض لم تعد تتيح للأطراف الأخرى فرض شروطها بالنسبة إلى الحل السياسي، ومنها أيضاً أن مسار آستانة استطاع أن يغيّر واقع الأزمة واكتسب زخماً في حين أن مسار جنيف أُنهك ولم يعد فاعلاً. يضاف إلى ذلك أن موقف روسيا مرشّح للتراجع إذا تمكّنت العقوبات الأميركية من إضعاف إيران، أو إذا فجّرت تلك العقوبات مواجهة أميركية - إيرانية لا بدّ أن تنعكس على الوضع في سورية... كل ذلك يتطلّب بالنسبة إلى دمشق وطهران إمّا أن تبادر موسكو إلى فرض حلٍّ تبدو تركيا أكثر استعداداً للانخراط فيه بعدما أغريت بورقة إدلب «الموقتة»، أو في أسوأ الأحوال أن تضغط من أجل قرار دولي جديد يتضمّن تراجعات أخرى عن الـ 2254 و «بيان جنيف». ومن شأن ذلك أن يمنح روسيا وإيران والنظام وقتاً إضافياً لاستكمال إنهاء الصراع على طريقتها. ربما تراود هذه الأفكار روسيا أو تجد فيها وسيلة للخروج من عجزها عن تحريك الحلول، لكن حساباتها الخاصة لا تدفعها باتجاه استفزاز الولايات المتحدة التي عادت فرسّخت وجودها في شمال شرقب سورية. من جهة أخرى، كانت لافتة تلك العبارة الصغيرة التي أطلقها رجب طيب أردوغان بعد القمة الرباعية، حين قال أن «انضمام» فرنسا وألمانيا إلى مسار آستانة سيجعل هذه الصيغة «أكثر مثالية». هل كان ذلك مجرد تمنٍّ لأن تركيا أقرب إلى الأفكار الغربية بالنسبة إلى الحل السياسي ولأنها غير مرتاحة إلى فقدها مقعدها في «المجموعة المصغّرة»، أم إنه عرض روسي يرمي ألى انتهاز الخلاف الأوروبي - الأميركي في شأن الاتفاق النووي والعقوبات المشدّدة على إيران. لم يكن واضحاً في مواقف الرئيس الفرنسي والمستشارة الألمانية أن لديهما تقويماً إيجابياً لصيغة آستانة أو أنهما قريبان من
«الانضمام» إليه. ثم إن التساؤل الأول في هذا المجال يتناول مدى استعداد الولايات المتحدة للمشاركة في سيناريو كهذا يراد له أن يعيد الحل السياسي إلى المربع الأول، ويراد منه إعادة إشراك إيران في صيغة موسّعة. من المستبعد، نظرياً، أن توافق واشنطن على تكرار اجتماعات فيينا والسعـــي إلى قرار دولي جديد حتى لو كانت هناك دول أوروبية لا تمانعه أو تريد تجريبه، بل حتى لو عُرض عليها مثـــلاً قبــول مشـــاركة إسرائيل، إذ تبقى واشنـــطن مندفعة (مع إسرائيل) في استراتيجية إضــــعاف إيران ونـفــوذها الإقــليمي.
أكثر من عقدة تكبّل خيارات ثلاثي آستانة، وكلّها غير مرتبط حُكماً بالمسألة السورية: روسيا وربطها تسهيل الحلّ في سورية بصفقات لن تحصل عليها مع الدول الغربية، إيران وهواجسها بعدما باتت تعرف صعوبات الحفاظ على نفوذها كما تتصوّره، تركيا وسعيها إلى هيمنة على أكراد الشمال مع علمها أن «الحليف» الأميركي هو الذي يحدّ طموحها أكثر مما يفعل خصومها. في المقابل عانت «المجموعة المصغّرة» من علّة مزمنة تتمثّل في الخيارات المتقلّبة للسياسة الأميركية حيال سورية، لذلك تحاول دول المجموعة إبقاء حوارها مفتوحاً مع روسيا لكن من دون أوهام. لا شك في أن هذه التعارضات والتداخلات الدولية تتيح لنظام دمشق مواصلة العبث للحفاظ على نفسه لا الحفاظ على سورية.
* كاتب وصحافي لبناني