تأتي زيارة رئيس وزراء إسرائيل الحالي إلى سلطنة عُمان ضمن سياق تاريخي يبدو واضحا لكثير من المتابعين وصادما للكثير من المتفاجئين، ممن يعتقدون أنهم ما يزالون يعيشون الحلم العربي، عندما كان مجرد ذكر اسم إسرائيل يعتبر خيانة للقضية ومبادئ القومية، لكنّ هذه الزيارة هي الثانية لرئيس وزراء اسرائيلي لمسقط، حيث كانت الأولى منذ حوالي ربع قرن، عندما زار إسحاق رابين السلطنة في عام (1994)، ليتم اغتياله من بني جلدته بعد عام، رفضا لنهجه وجهده في التقارب مع العرب "على حد زعمهم".
كانت الزيارة الأولى وقتذاك ضمن موسم مفعم بفرص وآمال السلام، حيث كان مؤتمر مدريد عام (1991) الذي انبثق عنه مع القنوات الرديفة اتفاقيات سلام مع الفلسطينيين (1993) والأردن (1994)، مما رفع منسوب الحماس وقتها لدى كثير من الأطراف العربية، بأنه لا بد من مسايرة عاصفة السلام والاستثمار فيها، والمساهمة بتشجيعها، وبدأت إسرائيل وقتها نشاطا دبلوماسيا هادئا، لكنه محموم، لتخترق معظم العواصم العربية شرقا وغربا، ونستطيع أن نقول أنها أنجزت ما لم يراودها في الاحلام، ولو استعرضنا العواصم العربية التي ما زالت أبوابها حتى اليوم مؤصدة علنا بوجه الإسرائيليين -لكن هناك دائما ما يمكن البوح به في السر- لوجدنا أنها تعد على أصابع اليد الواحدة.
يبدو اليوم أن المزاج البيني خليجيا حادا، متقلبا، بل ومتضاربا، حيث يمكن تلمس مسارات متباينة، وتوجهات شتى، لكن الاختلاف على ترتيب الأولويات، وتصنيف درجة الأعداء جعل اللوحة الخليجية تبدو كتلك التي اصابتها هزة أطاحت بها، وخلطت ألوانها، لكنّ التشابك السعودي الإيراني تحديدا، أشعل المنطقة، وأشغلها بمماحكات لم يستطع أحد أن ينجو منها.
لو استعرضنا العلاقات الإسرائيلية الخليجية لوجدنا أن بداياتها ليست قريبة، بل كانت هناك نشاطات مشتركة كان يتم التستر عليها منذ عقد الثمانينيات أو أسبق من ذلك، لكن منذ عقد التسعينات بدأت هذه العلاقات تأخذ طابع العلن، عندما زار رابين مسقط عام (1994)، ثم بعدها بعام استقبل وزير خارجية السلطنة في القدس، ليعقبها فتح مكتب تجاري، وبعد قليل يقوم شيمون بيريز بزيارة الدوحة (1996)، ويتم فتح مكتب تجاري مماثل، ليتم اغلاق المكاتب تحت ضغط الانتفاضة الثانية عام (2000)، بينما حافظت الكويت على خط قومي ثابت لم يتزعزع تجاه فلسطين برفض أي شكل من العلاقة بإسرائيل، وقد قام أول وفد إسرائيلي بزيارة المنامة (1994)، لكن دون نشوء علاقات من أي نوع، وبقيت المنامة تصر على ربط ذلك بقيام الدولة الفلسطينية، امّا أبو ظبي فكانت ترفض رسميا العلاقة، لكنها شاركت إسرائيل في مناورات عديدة، ويسرت أمر المشاركات الرياضية، وصرنا نسمع النشيد الوطني الإسرائيلي هتكفاه (الأمل) في عواصمنا، أمّا المملكة الكبرى فهي رسميا -حتى اللحظة – لا تعترف بإسرائيل، لكنها طرحت مبادرة عربية حظيت بإجماع العرب (2002) وتم احياؤها (2007) وكان أبرز ما يمكن أن يغري إسرائيل بها هو إقامة علاقات كاملة مع العالم الإسلامي شريطة مد يد السلام، ولكن علينا ألّا نخدع أنفسنا بأن إسرائيل كانت دائما هي التي تلاحقنا.
علاقة السعودية بإسرائيل لا يستطيع أحد أن يجزم بشأنها، وهي ذات وجهين؛ أحدهما علني ظاهره العداوة وعدم اعتراف الأولى بالثانية، وباطنه ينطوي على علاقات متشعبة، أمّا ما يحكم هذه العلاقة بصورة أوضح من باقي الخليج عاملان متلازمان هما؛ صداقة الولايات المتحدة غير المتكافئة، وعداوة إيران، مما يفرض أمرا واقعا-بحسبهم- بالتهاون في صد إسرائيل، بل إعادة النظر في استعدائها، على اعتبار أن أصحاب الشأن أخذوا على عاتقهم ما يتعلق بشأنهم.
باتت اليوم زيارات المسؤولين الإسرائيليين إلى العواصم العربية وخاصة الخليجية عادية، وكان المسؤولون والرياضيون الإسرائيليون -مؤخرا- يتجولون في ثلاث عواصم خليجية في الوقت نفسه، ليبدو أن هناك تنافسا مذموما لتغيير الأدوار أو تبادلها ولا يمر ذلك- بطبيعة الحال- أو يؤذن به، إلّا من خلال قنوات أو عواصم الحلفاء الكبار، فإن تعذر، فمحطة تل أبيب ذاتها تحظى بالقبول، كل هذا يقود إلى الانقلاب على الأدوار التقليدية والمؤسسات الإقليمية المنكمشة، مثل الجامعة العربية، ومجلس التعاون الخليجي، ومنظمة التعاون الإسلامي، لتكون هناك تحالفات ومؤسسات إقليمية جديدة، تصبح إسرائيل طرفا طبيعيا فيها، وما دعوة انضمام إسرائيل إلى جامعتنا ببعيدة أو غريبة.
أملنا دائما أن يقترن التطبيع أو الانفتاح على إسرائيل بمدى جديتها في السعي لإنجاز السلام العادل والدائم، واستعادة الحق العربي، لكن إسرائيل اليوم تعبث بالمنطقة من خلال تخليها عن كل المبادرات الجدية، بل على العكس أصبحت تستثمر في خلافاتنا الطائفية، وما دعوتها إلى التفاوض إلّا ذرّاً للرماد في العيون، حيث هدد رئيس وزرائهم الأسبق شامير بأن التفاوض سيبقى هدفا لذاته دون نتائج.
يتعرّض التطبيع بين الحكومات العربية وإسرائيل دائما للنقد والاعتراض الشعبي، وكانت هذه الخطوات تجد دائما رفضا قاطعا، يُعبر عنه بصور شتى، وهكذا فإنه كما في كل الوطن العربي كانت الحكومات تتعامل بالضرورات، في حين بقيت الشعوب تصر على خياراتها، برفض شرعنة أية علاقة قبل استرجاع الحقوق العربية المغتصبة في فلسطين والجولان وكل مكان.