لقد قرأنا منذ الصغر عبارة في معظم كتب الأدب : ( أن لكل شاعر شيطانا ) ! وهذا العبارة تناولها القدماء في كتبهم ؛ فمنهم من يذكرها دون أن يؤيدها أو ينفيها ، ومنهم من يذكرها بصيغة التمريض ( زعموا وادعوا ) ..
والمعاصرون ممن يمارس الأدب أغلبهم على إنكارها ، وذلك راجع لثقافاتهم الغربية التي تنفي مثل هذه الاشياء ويعتبرونها من خرافات وأساطير العرب ؛ لأنهم عقلانيون وعلى طريقة المعتزلة سائرون سواء شعروا ام لم يشعروا ... !!
وقد ذكر القدماء في كتبهم شعراء اعترفوا بهذا الاتصال حتى سموا أسماء شياطينهم التي تساعدهم على نظم الشعر وتعينهم على الانتصار على الخصوم .
فهذا امرؤالقيس يذكر اسم شيطانه ( مسحل ) :
وما كنت ذا قول ولكن حسبتني
....... إذا مسحل يبري لي القول أنطق
خليلان فيما بيننا من مودة
........ شريكان جني وأنسي موفق .
وقال أيضا :
دعوت خليلي مسحلا ودعوا له
....... جهنام جذعا للهجين المذمم .
وهذا حسان - رضي الله عنه - يقول :
إذا ما ترعرع منا الغلام
........ فما إن يقال له من هوه
إذا لم يسد قبل شد الإزار
....... فذلك فينا الذي لا هوه
ولي صاحب من بني الشيصبان
........ فطورا أقول وطورا هوه
وقال جرير :
وإني ليلقى علي الشعر مكتهل
....... من الشياطين إبليس الأباليس !
وقال الفرزدق :
لتبلغن لأبي الأشبال مدحتنا
....... من كان بالغور أو مروى خراسانا
كأنها الذهب العقيان حبرها
........ لسان أشعر أهل الأرض شيطانا
وقال أبو النجم الراجز :
إني وكل شاعر من البشر
....... شيطانه أنثى و شيطاني ذكر
فما رآني الا استتر
....... فعل النجوم إذا عاين القمر .
والأبيات في هذا الباب كثيرة فنكتفي بهذا القدر الذي يدلل على اعتراف الشعراء سواء في الجاهلية أو الإسلام أن لهم شياطين شعر تساعدهم على قوله ونظمه .
والذي يهمني هو إثبات حقيقة هذه العبارة أو نفيها ؛ فقد وجدت كلاما نفيسا يؤكد حقيقة هذه العبارة من عالم نحرير وباحث عميق في علوم الشريعة واللغة ألا وهو شيخ الاسلام ابن تيمية - عليه شآبيب الرحمة - حيث نص على مصداق اتصال الشياطين ببعض الشعراء وأنها توحي لهم زخرف الكلام .
قال - رحمه الله - في المجلد ( الثاني ) من مجموع الفتاوى ( 51 ) :
( فالكاهن مستمد من الشياطين ، " والشعراء يتبعهم الغاوون " ، وكلاهما في لفظه وزن ، هذا سجع وهذا نظم ، وكلاهما له معان من وحي الشياطين ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ، ونفثه ، ونفخه " ، وقال : " همزه : الموتة ، ونفثه : الشعر ، و نفخه : الكبر " ، وقوله تعالى : " وما هو بقول شيطان رجيم " ، ينفي الأمرين كما أنه في السورة الأخرى قال : " وما هو بقول شاعر " ، " وما هو بقول كاهن " وكذلك قال في الشعراء : " وما تنزلت به الشياطين " مطلقا .
ثم ذكر علامة من تنزل عليه الشياطين ؛ بأنه أفاك أثيم ، وأن الشعراء يتبعهم الغاوون ، فظاهر القرآن ليس فيه أن الشعراء تتنزل عليهم الشياطين إلا اذا كان أحدهم كذابا أثيما ، فالكذب في قوله وخبره ، والإثم في فعله وأمره .
وذاك - والله أعلم - لأن الشعر يكون من الشيطان تارة ، ويكون من النفس أخرى كما أنه إذا كان حقا يكون من روح القدس كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دعا لحسان بن ثابت : " اللهم أيده بروح القدس " ، وقال : " اهجهم وهاجهم ؛ وجبريل معك " .
فلما نفى قسم الشيطان نفى قسم النفس ؛ ولهذا قال : " يتبعهم الغاوون " ؛ والغي : إتباع الشهوات التي هي هوى النفوس ، ولهذا قال أبو حيان : " ما كان من نفسك ، فأحبته نفسك لنفسك ؛ فهو من نفسك ؛ فانهها عنه ، وما كان من نفسك فكرهته نفسك لنفسك ، فهو من الشيطان ؛ فاستعذ بالله منه ، فهذا - والله أعلم - سبب ذلك ) .
فهذا كلام المحقق الخبير ابن تيمية تطمئن له النفوس في تحقيق مصداق هذا العبارة ( لكل شاعر شيطان ) ، أما غيره من قدماء الأدباء فهم يذكرونها مجرد ذكر فقط ، ومنهم من يصرح بضعفها بقوله : ( زعم وادعى ) ، أما المعاصرون ؛ فأكثرهم في كل واد يهيمون !