باتت مصطلحات مثل «اللجنة الدستورية» و «الانتخابات بإشراف الأمم المتحدة» و «مناطق خفض التصعيد» مجرّد عناوين في الخطّة الروسية لإنهاء الحرب والإيهام بوجود حلٍّ سياسي في سورية، أو بكلام أكثر دقّة لتصفية المعارضة عسكرياً وسياسياً بموازاة إعادة إنتاج النظام... مع شيء من التنقيح. ومن بين الأطراف المعنية جميعاً هناك فقط اثنان مستاءان، النظام السوري وحليفه الإيراني، إذ يتشاركان الاقتناع بعدم تحريك الحلّ السياسي قبل إنجاز السيطرة العسكرية الكاملة، بما في ذلك مناطق تخضع حالياً للوجود التركي أو الأميركي. لكن بشار الأسد الذي التقى الرئيس الروسي أخيراً في سوتشي عاد بمقدار من الإحباط والقلق لأنه تلقّى أمراً بالتخلّي عن إصراره على تعيين جميع أعضاء «اللجنة الدستورية» والاكتفاء بتعيين ممثلي النظام فيها، وهو ما فعله، أما بقية الأعضاء فيتوقف تعيينهم على مشيئة موسكو سواء بتشاور شكليّ مع أنقرة وطهران أو بأخذها آراء الأطراف الأخرى في الاعتبار.
ما الذي جعل من «اللجنة الدستورية» مفتاحاً وعنواناً وحيداً مقبولاً لاستئناف البحث عن حلّ سياسي؟ ثمة أسباب - أو بالأحرى أوهام - عدّة: أولها، أن الدول المناوئة للنظام وتعتبر أن قتله أبناء شعبه ألغى نظرياً شرعيته لم تستطع نزع شرعيته عملياً، وبما أنها استبعدت باكراً الحل العسكري فإنها قيّدت نفسها بالحاجة الى رئيس النظام وتوقيعه لتمرير أي حل سياسي. والثاني، أن وجود إيران ثم روسيا على الأرض مكّنهما من التمسّك بالأسد واستخدام «شرعيّته» الى أقصى حدّ، واستطاعت روسيا توظيف مشاركتها في الحلَّين معاً بغية إخضاع الحل السياسي لمخرجات الحل العسكري. لذلك برز المبرّر الثالث، وهو أن استحالة انضواء المعارضة في كيان جامع يختزل «قوى الثورة» ويحظى بقبول واسع وتمتثل له الفصائل المقاتلة لم تحلْ فقط دون وجود «بديل» من النظام بل جعلت الدول التي تساند المعارضة في موقف تفاوضي ضعيف أمام المحاججة الروسية بأن النظام هو ضمان الدولة والمؤسسات في مواجهة مشاريع اقتتال فوضوية، فضلاً عن مواجهة الإرهاب واستشرائه.
كل ذلك لا ينفي حقائق مؤلمة ومؤسفة، أهمها أن داعمي المعارضة، أو «أصدقاء سورية»، يعرفون أن النظام هو مَن سعى الى عسكرة الانتفاضة الشعبية مستغلّاً إحجام المجتمع الدولي عن حماية الشعب السوري، وهو مع حليفه الإيراني مَن هندس انتشار الإرهاب باجتذاب تنظيمي «القاعدة» و «داعش». الحقيقة الأخرى هي أن تباينات المعارضة وعدم قابليتها للانتظام سرعان ما عكست تباينات «الأصدقاء» الذين لم تكن لديهم معرفة مسبقة بالمعارضين وعندما بدأوا يتعرّفون اليهم تناقضت استنتاجاتهم بين قوى إقليمية تتنافس على استقطاب الإسلاميين وقوى غربية تخشى هيمنة الإسلاميين وتطالب بضمانات مبكرة لـ «حقوق الأقلّيات» الدينية. كانت هذه المطالبة بـ «حقوق الأقلّيات» محقّة بلا شك، بل كانت مؤشّراً الى اقتناع راسخ لدى القوى الغربية بأن بعثية/ «علمانية» النظام ضمانٌ لتلك الحقوق، وهي ارتكبت بذلك تجاهلاً مبكراً أيضاً لأهمّ أسباب الانتفاضة وهو التاريخ الطويل من انتهاك النظام «حقوق الغالبية» بمختلف انتماءاتها الطائفية.
هذا يعيد الى حقبتَين، ما قبل الأزمة وما بعد الانتفاضة. في الأولى، كان المجتمع الدولي معتمداً على أن النظام بنى نموذجاً «مستقرّاً» لـ «حكم الأقلية» في سورية على رغم أن الغرب كان يوجّه انتقادات موسمية وشكلية لانتهاكات حقوق الإنسان.
وفيما تغاضى العرب عن كل ارتكاباته لتكريسه إحدى الركائز الثلاث للنظام العربي الإقليمي، كانت إسرائيل مرتاحة عموماً الى سلوكه ومتهادنة معه وإنْ حصلت بينهما مواجهات غير مباشرة في جنوب لبنان. أمّا في بدايات الأزمة وطوال الشهور الأولى، فكان الرهان الخارجي على النظام واضحاً، وذلك استناداً الى تجارب سابقة أبدى فيها حنكة وبراغماتية متأتّيتين عن حسّ مصلحة سلطوية، وكان معظم المواقف والاتصالات المباشرة وغير المباشرة يتمحور حول عبارة وردت في تصريح لباراك اوباما طالب فيها الأسد بأن يطرح الإصلاحات الضرورية ويقود تحقيقها.
لم يسقط هذا الرهان الخارجي على الأسد حتى بعد انتشار اليأس من «حكمته» وإفشال المحاولة الجدّية الأولى لإسقاطه عسكرياً (منتصف 2012). هناك من توهّم بعد ذلك بأن حليفه الإيراني يمكن أن يؤثّر «ايجاباً» في خياراته، وهو طرح فعلاً نقاطه الستّ التي روعيت لاحقاً في صوغ أسس الحل السياسي الذي أصبح القرار 2254، لكن الإيراني أصبح في ذلك الوقت مأخوذاً بالفرص الكثيرة التي فُتحت أمامه سواء لمشروع «تصدير الثورة» أو للدعوة الى التشيّع والسيطرة على سورية بتغيير التركيبة الديموغرافية لدمشق ومحيطها وباختراق مذهبي للمدن ذات الغالبية السنّية بهدف إضعاف طابعها السابق الذي جعل منها حواضر متكاملة الإمكانات الاقتصادية والعمرانية والثقافية. ووسط انشغال إيران بمشروعها وتفاصيله على نمط المستوطنات الإسرائيلية، إذا بالمعارضة تتمكّن من طرد النظام من ادلب والسيطرة على أجزاء كبيرة من حلب بالإضافة الى تهديد معقل النظام في الساحل. قبل ذلك، كان تنظيم «داعش» انتشر شمالاً وبدأ يتوسّع جنوباً وغرباً، وفيما كان النظام وإيران يراهنان على أن المساعدة التي قدّماها لـ «داعش» تضمن أن يلعب لمصلحتهما فحسب، إذا به ينقلب لمصلحة مشروعه و «دولته»، ما أنشأ استطراداً واقع الحرب على الإرهاب وأولويتها.
مع وجود تحالف دولي واسع بقيادة الولايات المتحدة على حدود سورية، تعاظمت مخاوف إيران من استخدام هذه القوة الخارجية ضد النظام السوري وبالتالي ضدّها وضدّ ميليشياتها. بعد التجربة العراقية صار مستبعداً أي تدخّل عسكري مباشر للأميركيين في الأزمة السورية، لكن مجرّد وجودهم على الحدود كان كافياً لإنذار روسيا بأن الوقت حان للتدخّل المباشر، أولاً لحماية ما لديها من مصالح والاستزادة منها ثم لإنقاذ النظام وتوسيع سيطرته تمهيداً لإعادة تأهيله وفرضه كأمر واقع دولي. ومن أجل ذلك لم يتردّد الروس باللجوء الى الوحشية في حلب والغوطة الشرقية، أو بالشدّة ثم الخدعة لاستقطاب تركيا واستخدام نفوذها لدى المعارضة لفرض ما سمّي «مناطق خفض التصعيد»، أو أخيراً بابتزاز القوى الخارجية الأخرى. وفي كل المراحل العسكرية كان يبدو الروس والأميركيون على خلاف، لكن الالتزام الروسي بالدفاع عن النظام لم يكن يوماً بمستوى الدفاع الأميركي - الغربي عن المعارضة، بل إن التفاهمات بين الدولتين انتقلت بثبات من إدارة اوباما الى إدارة ترامب.
كان لا بدّ من هذه المراجعة السريعة لإظهار الخطّ الانحداري للحل السياسي من طموحات جنيف (هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات ثم «السلال الأربع») الى إملاءات آستانة - سوتشي (لجنة دستورية ثم «انتخابات»)، وكيف أن هذا الخط كان يمعن في الهبوط بموازاة ارتفاع خط التوسّعات الميدانية لروسيا وحليفيها وبنمط احتلالي معادٍ للشعب. الأكيد أن الدستور مسألة كانت تتطلّب التفاوض عليها، لكن تلاعب روسيا بشكل المفاوضات واختيارها عدداً من أتباعها «المعارضين» وآخرين معروفين بموالاتهم للنظام لعضوية اللجنة وتحكّمها بالتمثيل الضئيل للمعارضة فيها تنبئ بأن لدى موسكو نسخة شبه جاهزة للدستور تريد تمريرها، بما يعنيه ذلك من تضييع وإفساد لفرصة حل حقيقي للمسألة السورية. وبطبيعة الحال، فإن الانتخابات يجب أن تكون تجسيداً للعملية السياسية وحافزاً على إنجاحها، لكن الروس والنظام يدافعون عن إجراء انتخابات في ظروف هيمنة للأسد وشبّيحته ولا يمكن لإشراف الأمم المتحدة أن يحول دون التزوير المسبق للعملية الانتخابية أو دون الترهيب قبل الاقتراع وأثناءه وبعده، ومَن لا يصدّق ذلك فليسأل خبراء المنظمة الدولية بعيداً من الكاميرات والميكروفونات وليتعرّف الى لائحة الصعوبات أمام انتخابات حرّة ونزيهة في بلد نصف شعبه في الخارج ولن تكون له مشاركة فاعلة في اختيار ممثليه، بل أن مرشّحيه لن يتمكّنوا من مخاطبة الناخبين في ظروف صحيحة ومناسبة.
ليس معروفاً متى يقتنع الروس بأن المنظومة العسكرية والأمنية الراهنة كفيلة بإحباط أي حلّ حتى لو كان الدستور مثال العدل والإنصاف، وأن إهمال ملف العودة الآمنة للنازحين والمهجّرين ومفاقمته بـ قوانين» خرقاء كالقانون الرقم 10 الذي يشرّع سرقة الممتلكات لا يمكن أن يمهّدا لأي عملية سياسية سليمة.
* كاتب وصحافي لبناني