هل تعتبر روسيا أن استصدار النظام السوري القانون الرقم 10 عبر الدمى الجالسة في «مجلس الشعب» إجراء «سيادي» لا مجال لأن تتدخّل لتجميده وإلغائه، لكن ماذا عن مئات الإجراءات السيادية وغير السياديّة التي لم تتدخّل فقط بل أمرت بتغييرها والامتثال لما يعاكسها؟ وهل ترى موسكو في سلب ملايين السوريين «الغائبين» أملاكهم وبيوتهم والإنذار «قانونياً» ببيعها بالمزاد ما يمكن أن يساهم في الحفاظ على «وحدة سورية» وفي إيجاد تسوية سياسية لا يزال وزراء الكرملين ومسؤولوه يؤكّدون أنهم يبذلون كل جهد لإنجازها؟ وهل يمكن أي تسوية تحلم بها موسكو أن تُبنى على وجود «دولة» يقودها نظام تمنحه روسيا مع حليفه الإيراني غطاء سياسياً لإلغاء حقوق السكان ونهب ممتلكاتهم وتجاهل حقوقهم وطموحاتهم، بل تمنحه غطاءً دولياً ليواصل العبث خارج القوانين الدولية فيما لا يزال متمتّعاً بعضوية الأمم المتحدة؟.. لا بدّ أن تشابه العقليات السياسية بين الحلفاء الثلاثة وحليفيها هو ما مدّ دولة كبرى كروسيا ويمدّها بمبرّرات وإنْ واهية للسكوت على ما يجري لاستكمال مخططات التقسيم. فهؤلاء الحلفاء يتصرّفون كما تتصرف المافيات بأرض سليبة لكن تبقى حريصة على وجود ديكور «شرعي» لتحصين سرقاتها.
المنطقة في حال انتظار لاستحقاقاتٍ منها المعروف والمبرمج مثل بتّ مصير الاتفاق النووي والردّ الإيراني المتوقّع على الولايات المتحدة وتداعيات قمة القمة الأميركية - الكورية الشمالية على هذا الملف، ومنها ما هو غامض مثل المواجهة الإسرائيلية - الإيرانية في سورية والنتائج التي يمكن أن تترتّب عنها، ومنها ما هو مجهول مثل احتمال عودة واشنطن وموسكو إلى بناء تفاهمات في شأن سورية. إذ إن قطيعتهما الحالية أوجدت فراغاً تعمل دمشق وطهران على ملئه بأبشع الاستغلالات، بمواصلة اقتلاع السكان والسعي إلى إشاعة مناخ «تطبيع» كاذب لما بعد الأزمة. أما روسيا فتحاول الإيحاء بأنها تدير هذا الفراغ وتستغلّه في إغراء تركيا وتليين موقفها من نظام بشار الأسد فضلاً عن اللعب على التناقضات بينها وبين أميركا، وتوحي أيضاً بأنها مسيطرة تماماً على الوضع وممسكة بكل الأوراق من دون أن تغيّر شيئاً جوهرياً في واقع الأزمة السورية.
لا تخفي موسكو انشغالها الجدّي باحتمالات المواجهة العسكرية بين الإسرائيليين والإيرانيين، فالعديد من الأوساط في واشنطن وعواصم أوروبية سجّلت حركة محمومة لسفراء وديبلوماسيين وأشخاص مرتبطين بمراكز أبحاث روسية يسعون إلى معلومات تساعدهم على تقدير دقيق للموقف، وفي الوقت نفسه إلى إيصال رسائل إلى إدارة دونالد ترامب لإثارة اهتمامها. وتتقاطع آراء من جرى الاتصال بهم عند جملة خلاصات: أولها، أن الروس لا يتصوّرون حصول أي مواجهة من دون أن يكونوا متفاهمين مع الأميركيين على حدودها وأهدافها لئلا تخرج عن السيطرة. وثانيها، أنهم ينطلقون من انطباع شائع بأن واشنطن وافقت على معظم الخطط الإسرائيلية لكنهم يحاولون أن يعرفوا بدقة ما اتفق عليه الجانبان وما هو تصوّرهما لتطبيق استراتيجية تقليص النفوذ الإيراني في سورية. وثالثها، أنهم يدرسون عروضاً لتطوير تفاهماتهم مع إسرائيل سواء بالنسبة إلى الحدّ من تدفق الأسلحة النوعية، خصوصاً الصاروخية، أو بالنسبة إلى خريطة انتشار المقاتلين التابعين لإيران. ورابعها أنهم لن يقبلوا بأن تُفرض عليهم أجندة زمنية تضعهم أمام أمر واقع، وبالتالي يريدون شراء الوقت ليحدّدوا سياسة قابلة للتطبيق ميدانياً مع الإيرانيين والإسرائيليين.
في المقابل، يشير الجانب الروسي إلى أن اقتلاع الوجود الإيراني أو تقليصه عسكرياً في سورية دونه صعوبات كبيرة، وأن الضربات الجوّية أو الصاروخية التي تتمّ في شكل متواصل بالتنسيق مع قاعدة حميميم تجعل ذلك الوجود أكثر كلفةً لكنها لا تعطّل التغلغل الإيراني بل تدفعه إلى مزيد من التجذّر والتشعّب. وانطلاقاً من استبعاد أفيغدور ليبرمان أي مواجهة بين إسرائيل وروسيا سيحاول بنيامين نتانياهو مع الرئيس الروسي استشراف إلى أي حدّ يمكن موسكو أن تكون «متعاونة». ومع افتراض حصول هذا التعاون على النحو الذي يتمنّاه الإسرائيلي فقد سبق للروس أن اشترطوا عدم الإخلال بتوازن المنطقة، أما الجديد الذي يحتاجون إلى توضيحه فهو إعادة تحديد الأهداف بينهم وبين الأميركيين وأين تتمايز حسابات هؤلاء عن حسابات الإسرائيليين، لكن السائد في واشنطن هو الغموض إما لتخبّط استراتيجيتها بين الاستمرار في سورية والانسحاب منها أو لانتفاء الفائدة من التحاور مع موسكو بسبب عدم وفائها بتعهّدات سبق التوافق عليها، وبالتالي ربما يميل الأميركيون إلى إرجاء أي تواصل مع الروس إلى ما بعد التحرك الإسرائيلي.
لم تختلف المسألة بين الدولتين الكبريين عما كانت سابقاً، ذاك أن روسيا لا تريد، ولعلها لا تستطيع، مقاربة الوجود الإيراني في سورية (طبيعته، حجمه، وظيفته، أسلحته، توسّعه الجغرافي، اشتغاله على هندسة التركيبة السكانية، مغزاه الاستراتيجي والصراعات التي يثيرها في المنطقة...)، إلا إذا كانت أميركا جاهزة ومستعدّة لعقد صفقة معها. هل يعني ذلك أن روسيا نفسها أصبحت جاهزة لصفقة تقتصر فقط على سورية؟ لا ليس بعد، إذ إنها لا تزال عالقة في عقدة مقايضات دولية لا تريد أميركا الخوض فيها. عدا ذلك، لن يسهّل الإيرانيون مهمّة روسيا، فهُم قبلوا على مضض شروطها وقيودها عليهم، وسكتوا على تنسيقها مع إسرائيل ضدّهم، طالما أنها لم تتدخّل بوجودهم ولم تقم حواجز أمام تمدّد نفوذهم. وعلى رغم تمسّكهم بأفضل علاقة ممكنة مع روسيا إلا أنهم لن يتوانوا عن مواجهتها إذا سهّلت أو تغاضت عن أي حملة ممنهجة لإضعاف وجودهم في سورية. واقعياً، لم تكن لدى الروس خطط بهذا المنحى، وكل ما فعلوه أنهم استخدموا سيطرتهم على قرار النظام ليمرّروا عبره ما هو مسموح أو ممنوع للإيرانيين.
بحثت إيران دائماً عن المواجهة ووعدت نفسها بها لإثبات قدرتها ونجاعة استعداداتها، وهي تراهن الآن على إفشال التحدّي الإسرائيلي ليس فقط لتثبيت وجودها في سورية بل لتصبح عنصراً استراتيجياً أساسياً في المنطقة. ومع أنها تجد في تزايد الضغوط عليها ما يشدّ عصب أنصارها إلا أنها بدأت تستشعر تغييراً في البيئة الإقليمية التي كانت طوال سبعة أعوام مسرحاً لتفرّدها. صحيح أن وجودها في سورية لم يدخل بعد مرحلة الخطر لكنها مضطرة لمراجعة حساباتها على الدوام. ها هم خصومها يقولون جميعاً إنها قد تكون الجهة الوحيدة المستفيدة من الانسحاب الأميركي، ويتوقف ذلك على متى وكيف يتّم الانسحاب ولمصلحة مَن؟ جاء التحديث الأخير من وزير الدفاع جيمس ماتيس بقوله أن «لا خروج من سورية وهي في حال حرب». وليس مؤكّداً أن رئيسه يلتزم هذا الهدف، خصوصاً أن إنهاء الحرب لا ينفكّ يتخذ منحىً صراعياً دولياً من دون بحث جدّي روسي أو أميركي عن حلٍّ أو تسوية.
قد يعني ذلك أن الأميركيين والإسرائيليين يريدون تفاهماً مع روسيا على «تحييد» للإيرانيين بحيث لا يواصلون إطالة الحرب وتعطيل أي حلّ، ما يفترض زعزعة العلاقة بين طهران من جهة الشريك الروسي والحليف السوري من جهة أخرى. لكن الإيرانيين يرون أن هذا الهدف الأميركي أو الإسرائيلي يتجاهل الواقع، ليس لأنهم مستعدّون عسكرياً فحسب بل لأنهم يطوّرون علاقاتهم مع المكوّنات السورية في المناطق التي أخرج منها المقاتلون، بل يدخلون شيئاً فشيئاً إلى عمق النسيج العشائري السنّي، ويربطون مزيداً من السوريين بالخدمات التي يوفّرونها حيث تترك «الدولة» السورية فيها فراغاً كبيراً، فالنظام يصرّ على استعادة السيطرة «كاملة» لكنه لا يستطيع إعادة الدولة إلى كل المناطق، ليس فقط لأن لديه نقصاً هائلاً بالإمكانات بل خصوصاً لأنه لا يملك الرغبة ولا الإرادة.
لذلك ينشط الإيرانيون للحلول محله. يوفرون للناس المقومات البسيطة للعيش (بعض المال، الطبابة، التعليم...) ويساعدون بعضاً منهم على ترميم مساكنهم. وسواء سعوا إلى «التشييع» أم لا فإنهم يحصلون على تشيّع عملي طالما أنهم يطوّرون كياناً بديلاً من النظام والمعارضة وبالتالي يشترون ولاء الناس بتمكينهم من العيش. ولعل الإيرانيين يرون في هذا التجذّر بطاقة إقامة دائمة يعملون على تزكيتها بخطط تغيير التركيبة السكانية. إنهم يحرزون نجاحات في مناطق استعدوها واستعدتهم وحاربوها وحاربتهم واستخدموا الروس لتدمير كل المرافق فيها، من ماء وكهرباء ومخابز ومستشفيات ومستوصفات وأسواق ومدارس... ويحاولون الآن إظهار نخوة فائقة لتغيير ما في دواخل الناس من مرارة حيال «الاحتلال الإيراني»، فيما يزداد النظام رسوخاً في عدائيته الخالصة للشعب.
* كاتب وصحافي لبناني