يهيمن داخل سورية انطباع بأن نظام بشار الأسد انتصر، بدليل ما يستعيده من سيطرة على مناطق حول دمشق وبعيداً عنها، وما يعرضه رجال أعماله من مشاريع وخرائط للمدن المدمّرة في الغوطة وسواها من مناطق «سورية المنسجمة ديموغرافياً»، إلى حدّ أن برلمانه الخاص لم يتردّد في إصدار قانون يشرّع سلب «أملاك (السوريين) الغائبين» والتصرّف بها. ومع أن أطرافاً غربية حاولت في مشاورات مغلقة وفي اتصالات سرّية مع النظام النظر ببراغماتية إلى هذا «الانتصار»، كونه واقعاً يتأكّد يوماً بعد يوم، إلا أنها استنتجت لاحقاً أنها أبعد ما تكون عن التعاطي مع رجل دولة مدرك هول ما فعله ببلده وراغب في فتح صفحة جديدة مع «شعبه»، أو مع حاكم لديه رؤية وفاقية لـ «وطنه». أضاعت هذه الأطراف وقتاً طويلاً في ملاحقة أوهامها لاحتمالات إعادة تأهيل الأسد «إنقاذاً للدولة»، وفي تطويع «مبادئها» وقوانينها لقبوله، أقلّه من أجل مصالحها، إن لم يكن «إنقاذاً لحل سياسي»، لكنها عادت فوَعَت حقيقة أنها إزاء رجل استوعبه حُماتُه/ محتلّوه، وأن قبوله بجرائمه أفضل خدمة مجانية للاحتلالَين الروسي والإيراني.
إذا صحّ أن الحاصل الآن هو «انتصار» فإنه يثير سلسلة طويلة من الأسئلة تبدأ بـ «مَن صنعه» وتتواصل بـ «مَن انتصر» فعلاً، وعلى مَن، ومن أجل مَن، والأهم من أجل ماذا؟ لا على سبيل الجدل بل لأن التطوّرات الراهنة تصوّر ما سبقه ولا تزال آثاره أمام الأبصار كأنه مُحي وأصبح من ماضٍ سحيق، وترمي إلى تقديم «الانتصار» على أنه الحدث المعني بالمستقبل المُقترح لا لسورية والسوريين فحسب، لكن أيضاً للمنطقة وشعوبها. ذاك أن هذا «الانتصار» قد يكون النمط الأول الذي يولد مستوحياً كليّاً النموذج الإسرائيلي بأسوأ ما فيه، بل يتجاوزه بجرائمه وتفاصيله التي لم تعد حتى الدول الغربية التي سبق أن دعمت إسرائيل لتتقبّلها، على رغم استمرار الولايات المتحدة في تغطيتها وحمايتها. ومنها المجازر والدمار واقتلاع السكان وتهجيرهم أو طردهم خارج الحدود، ومنها أيضاً الاستيطان الذي يقوم الإيرانيون بما يوازيه ويستعدّ أتباع النظام لمشاركتهم فيه، ومنها أخيراً وليس آخراً أن الإصرار على أولوية «استعادة السيطرة» من دون اتفاق سياسي تعايشي، أو مجرّد التفاوض عليه، يحاكي الأولوية الإسرائيلية لإدامة الاحتلال وإحباط أي تحرّك دولي لإحياء المفاوضات حتى مع وجود طرف فلسطيني تخلّى عن العمل المسلّح ولا يكلّ من تكرار أن التفاوض على السلام هو خياره الوحيد.
صحيح أن النماذج العربية للاستبداد لا تُعزى جميعاً إلى صدمة الهزائم والاغتصاب الإسرائيلي للأرض الفلسطينية، لكن النمط الذي أسسته إسرائيل في المنطقة لاحتقار القوانين الدولية والدوس على حقوق الفلسطينيين كان له أثرٌ تلقيني لبعض الحكام، فانتهجوا الاستبداد وواظبوا على تبرير شدّتهم مع شعوبهم بمقتضيات الحرب ضد إسرائيل، حتى بلغ الأمر بصدّام حسين أن يجيّر غزوه الكويت لنصرة القضية الفلسطينية، وببشار الأسد أن يستنجد بإرهاب «داعش» للخلاص من انتفاضة شعبه ضدّه. وبما أن الاستبداد الإسرائيلي الذي عصف بالمنطقة استقطب في عقوده الأولى دعماً كاملاً، أميركياً وأوروبياً وسوفياتياً، كاستثناء أوحد في سياق الحرب الباردة، فقد أشاع مع داعميه منطق العسف والإفلات من أي محاسبة ومساءلة وعقاب مهما بلغ استهتاره بالقوانين والحقوق. وإذ اعتبر صدّام والأسد أن ما يحقّ «دولياً» لإسرائيل لا بدّ أن يحقّ لهما، وبدعم خارجي أيضاً، فإن صدّام قضى مع نظامه كنتيجة لأخطائه وتخطّيه الخطوط الحمر في لحظة تحوّل للنظام العالمي، أما الأسد فيعتقد أن احتفاظه بدعم روسيا وإيران وإسرائيل مكّنه من كسر الخطوط الحمر والبقاء في السلطة، وأنه ونظامه تجاوزا كل خطر بل دخلا مرحلة تدبير مستقبلهما.
كيف لا يحقّ له أن يعتقد ذلك وقد لمس أن أشدّ خصومه و «المتآمرين الكونيين» عليه قدّموا كل مساعدة ممكنة للجم الانتفاضة الشعبية ضدّه، بدءاً بالولايات المتحدة التي تكفّلت منع إسقاطه يوم كان ذلك ممكناً عسكرياً، وصولاً إلى تركيا التي تولّت بالتفاهم مع روسيا إدارة انهيار المعارضة المسلّحة. ولكن «الانتصار» الذي يهلّل له النظام يبقى مشوباً بكثير من عدم اليقين، فأصحاب النصر الحقيقيّون هم الروس والإيرانيون، الروس باقون رسمياً لخمسين سنة والإيرانيون «إلى الأبد»، إلى ما بعد الأسد! كلّما ازداد وجودهم أهميّة واتخذ منحىً احتلالياً كلّما تراجع النظام، وكل نصر يمنحونه إياه ملغّم بهزيمة مقنّعة تقضم أجزاء من عمره. لا غنى له عنهم مهما قست ضغوطهم عليه فهو لم يعد في موقع يمكّنه من التلاعب عليهم، ولا غنى لهم عنه مهما انكشف هزاله، وطالما أنه مسكونٌ بمعاداة شعبه فإنهم يضمنون أن تبعيته لهم صارت خياره الوحيد. هناك حال انسجام لافتة بين النظام وحليفيه، فقبل تقاطع مصالحهم الجيوسياسية يتشاركون جميعاً القمع الوحشي والبطش بشعوبهم واستخدام الترهيب الدموي لانتزاع «شرعيتهم» من صناديق اقتراع مبرمجة.
ما يقلق نظام الأسد في اللحظة الراهنة هو تجمّع نذر المواجهة بين الإسرائيليين والإيرانيين، أي بين أصحاب الفضل الذين يدين لهم ببقائه. لا يمكنه «النأي بنفسه» حتى لو تمنّى ذلك، ولا يستطيع الكذب على الطرفَين كما يفعل الروس. ويمكن أن تُفهم مسائل خمس من تصريحات كبير حاخامات روسيا، الذي حمل أخيراً رسالة ممن فلاديمير بوتين إلى بنيامين نتانياهو: 1) إن روسيا حريصة على مصلحة إسرائيل وحقّها في الدفاع عن نفسها في «لحظة الخطر المحدق» و «بشرط عدم الإخلال بالتوازن في المنطقة». 2) إن حكم الأسد في سورية أفضل من حكم «داعش». 3) إن المنظومات الصاروخية الروسية في سورية ليست موجّهة ضد إسرائيل بل ضد الضربات الأميركية والغربية. 4) إن الضربات الإسرائيلية لأهداف في سورية ليست بعيدة عن التنسيق مع روسيا ولذلك فإن مستوى الإدانة الروسية لها ليس قويّاً. 5) إن روسيا «قادرة على كبح جماح إيران» وتنصح إسرائيل بـ «التقليل من مخاوفها وعدم تضخيم القوة الإيرانية، التي لها أهداف أخرى في الشرق الأوسط، فالمنطقة تهتزّ وليس فقط سورية»، كما قال الحاخام. ومع وجود تناغم بين هذه الإشارات وإعلان مايك بومبيو دعم «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، فإن رسالة بوتين تنصح إسرائيل بالتخلي عن مواجهة واسعة مع الإيرانيين في سورية والاكتفاء بضرب مواقعهم... بالتفاهم مع روسيا.
كان نظام الأسد تعايش عملياً مع قواعد الاشتباك التي وضعتها روسيا للإسرائيليين والإيرانيين، بل اعتبر نفسه مستفيداً منها، لكنها لم تعد كافية لضبط الصراع في المرحلة المقبلة. فإسرائيل التي تنسّق خططها مع واشنطن مهتمّة خصوصاً بقواعد إيران في سورية وبالأسلحة والصواريخ التي تكدّس فيها أو تمرّر إلى «حزب الله» في لبنان، وليس مؤكّداً أن الروس والنظام قادرون على منعها أو تحديد سقفٍ لها، ولذلك فإن إسرائيل لن تكتفي بضربات تعرف مسبقاً أنها لن تؤثّر في بنية الوجود الإيراني.
لا شك أن الضحيّة الدائمة لأي تصعيد هي عملية البحث عن حل سياسي. ثمة انسداد تأكّد أخيراً مع إعلان الدول الخمس (بعد اجتماع باريس) أنها تبحث في «خريطة طريق» لإحياء المفاوضات في «مسار جنيف»، أما ثلاثي «مسار آستانة/ سوتشي» فأشار (بعد اجتماع موسكو) إلى زيادة الجهود المشتركة لتسهيل التوصّل إلى تسوية سياسية دائمة بـ «استخدام كامل لآليات متعدّدة المستويات لشكل آستانة» ما يعني عملياً أن روسيا باتت أكثر إصراراً، بعد الضربات الثلاثية، على أن ينبثق الحلّ السياسي من الحسم العسكري، وليس من صيغة «مناطق خفض التصعيد» التي لم يعد سرّاً أنها كانت مجرّد خطّة لإضعاف المعارضة وخفض مطالبها. ويقوم الحلّ الذي يراه «المنتصرون» ممكناً على تحكّمهم بالمفاوضين وبـ «تسوية» جاهزة تشكّل تكريساً رسمياً لـ «انتصار» النظام، ولو كان الروس والإيرانيون والأتراك قادرين فعلاً على فرض حلٍّ كهذا لما تأخروا.
* كاتب وصحافي لبناني