تَعكِس التَّصريحات والاتّهامات التي صَدرت عن الرئيس الفِلسطيني محمود عباس، سَواء تِلك المُتعلّقة بالسفير الأمريكي في تل أبيب، أو الأُخرى التي تَضمَّنت اتّهامات لحَركة “حماس” بالوُقوف خَلف التّفجير الذي استهدف مَوكِب الدكتور رامي الحمد الله، رئيس الوزراء، في مَدخَل قِطاع غزّة، حالةً من الإحباط النَّفسي التي يَعيشها، وربّما استفحال حالته المَرضيّة أيضًا.
لم يَكُن الرئيس عباس في حاجَةٍ إلى وَصف السفير الأمريكي ديفيد فريدمان بأنّه “ابن كلب” بعد تصريحه الاستفزازي الذي قال أن المُستَوطنين اليهود يبنون المُستَوطنات في أرضِهم، فمِثل هذه التوصيفات لا تَليق بِه ومَركزِه، وهو الرَّجل المَعروف بِهُدوئِه واتّزانِه، وكان يُمكِن أن يَرُد بِطُرقٍ عمليّةٍ أُخرى أكثر فاعِليّة وإيلامًا للسّفير وحُكومَتِه ومُستوطِنيه.
وحتى إذا أراد الرئيس عباس أن يُعبِّر عن غَضبِه تُجاه هذه الاستفزازات التي فاقت كل المَعايير السياسيّة والأخلاقيّة بِصُدورها عن سَفير دولةٍ عُظمى فمِن المُفتَرض أن يكون دِبلوماسيًّا ويَختار كلماته بِعِناية فائِقة، فقد كان عليه في الوَقت نفسه أن لا يُصعِّد اتّهاماتِه ضِد حركة “حماس″، ويَغمِز من قناة مِصر، ويَستعدي حركة “الجِهاد الإسلامي”، فالوِحدة الوطنيّة، أو الحَد الأدنى مِنها، باتَ مَطلوبًا في ظِل التغوّلَين الأمريكي والإسرائيلي ضِد الشَّعب الفِلسطيني وحُقوقِه المَشروعة.
***
كُنّا نتمنّى لو أنّ الرئيس عباس حافَظ على هُدوئِه وضَبط أعصابه، وكَظم غَيظه، ورَد على هذا السَّفير ووقاحَتِه واستفزازاتِه بإلغاء التَّنسيق الأمني فِعليًّا، وإلقاء خِطاب جماهيري يُطالِب فيه الشَّعب الفِلسطيني، أو وحركة فتح التي يتزعّمها على الأقل، بإشعال فَتيل الانتفاضة.
وصف السفير الأمريكي “المُستوطِن” بأنّه “ابن كلب”، لن يُوقِف الاستيطان، ولن يُغيّر مَوقِف إدارته الأمريكيّة من الاعتراف بالقُدس المُحتلّة عاصِمةً لدولة الاحتلال الإسرائيلي، بل يُعطِي نتائج عكسيّة تمامًا، أبرزها ظُهور القِيادة الفِلسطينيّة بمَظهر القِيادة “المُنفَعِلة” وغير الحَضاريّة، وهذا ما حَصل فِعلاً بالنَّظر إلى رُدود الفِعل الإسرائيليّة والأمريكيّة على تَصريح الرئيس الفِلسطيني الخارِج عن المَألوف، فقد أصبح الشَّعب الفِلسطيني وقِيادته المُتّهمين بالكَراهية، أما المُستوطِنون اليَهود فهُم حملان وديعة، وحضاريّة مُنضبِطَة في الوَقت نَفسِه.
الرئيس عباس باتَ مِثل النِّمر الجَريح يَخبُط في جميع الاتّجاهات، ولكنّنا لم نَتوقّع مُطلقًا أن يَصِل بِه الأمر إلى “الخُروج عن النَّص” السِّياسي والدِّبلوماسي، بهذه الطَّريقة، خاصَّةً أنّه قَبل أُسبوعَين فقط استخدم تَعبيرًا ربّما ليس على هذهِ الدَّرجة من الخُطورة عندما تَمنّى “خراب بيت” دونالد ترامب في خِطابٍ عَلنيٍّ آخر، ولا نَعلم على من سَيُوجِّه الشَّتائِم نفسها في الخِطاب أو التَّصريح المُقبِل.
هُناك “سِر ما” لا نَعرِفه، ويَتعلّق بالحالة الصحيّة والنفسيّة للرئيس عباس، ولا نَستبعِد أن يكون المَرض يَكمُن خلف انفعالاتِه هذه، فقد أجرى فُحوصات في مستشفى كيلرمونت الأمريكي المُتخصِّص في الأمراض المُستَعصية أثناء زيارته الأخيرة لأمريكا، وبَعدها صارح أعضاء المجلس الثَّوري لحركة فتح أثناء اجتماعه بِهم بعد عَودَتِه قبل أُسبوعين بأنّه قد يَكون هذا اللِّقاء الأخير معهم، دون أن يُحدِّد، أو يُعطِي مَعلوماتٍ عمّا يَكمُن خَلف هذهِ الخُطوة الوداعيِّة غَير المَسبوقة.
نحن لا نُريد أن نتحدّث عن تأثير اتّهامات الرئيس عباس لحركة “حماس” بالوٌقوف خلف تفجير غَزّة على المُصالحة الفِلسطينيّة، لأنّه لا تُوجَد مُصالحة في الأساس حتى تَنهار، ولكنّنا نَربَأ بالرئيس الفِلسطيني أن يتّخذ من مُحاولة الاغتيال المَزعومة والمُريبة هذهِ لتَشديد العُقوبات على مِليونيّ من أبنائِه في القِطاع، ووقف كُل صُور الدَّعم لهم، خاصَّةً أن أوضاعهم المَعيشيّة ليست على ما يُرام، فإذا كان لا يٌريد أن يموت خائِنًا مُتنازِلاً عن الثَّوابِت الفِلسطينيّة، مِثلما قال في خِطابه أمام المجلس الثوري، فإنّنا لا نريده أيضًا أن يموت وهو مُتسبِّب في تَجويع أبناء القِطاع، وهو يعلم أن أكثر من ثلاثة أرباعهم لا يتناولون إلا وجبة واحِدة في اليوم، ويشربون المِياه المُلوّثة، ولا تَصِلهُم الكهرباء إلا لمُدَّة ساعَتين أو ثلاثة في اليَوْمْ، ولا يَجِدون الدَّواء لعِلاجِ مَرضاهُم.
***
نحن مع الرئيس عباس في غَضَبِه على السفير الأمريكي ورئيسه في واشنطن، ولكنّنا لسنا مع الرَّد بالشَّتائِم، وإنٍما بالإجراءات العَمليّة، وهَدم المَعبد على رُؤوس الجَميع، فلم تَعُد هُناك عمليّة سَلام، ولا حَل الدَّولتين، ولا حَل الدَّولة الواحِدة، ولا كرامة للشَّعب الفِلسطيني، فماذا يَنتظِر الرئيس عباس والمَجموعة المُحيطة بِه؟
لا نُريد أن تَنطبِق على الرئيس عباس المَقولة الأعرابيّة الشَّهيرة: “أشبعناهم شَتْمًا وفازوا بالإبِل”، ولا بُد أنّه يَعرِفها جيّدًا، وهو المُدرِّس السَّابِق لللُّغَةِ العَربيّة وآدابِها.