احتدمت حِدّة المعارك في الغُوطةِ الشرقيّة اليَوْمْ بعد ساعاتٍ من صُدور قرار عن مجلس الأمن الدَّولي يَنُص على وقف القِتال، وإعلان هُدنةٍ لمُدّة ثلاثين يومًا، والسَّماح بِدُخول المُساعدات الإنسانيّة لأكثر من 400 ألف من أهالي المِنطقة المُحاصَرين.
صحيح أن حِدّة القَصف الجويّ قد خَفّت باعتراف المَرصد السوري لحُقوق الإنسان المُقرّب من المُعارضة، ولكن الجيش العربي السوري مُصَمِّمٌ على مُواصَلة القِتال حتى السَّيطرة على جَميع المَناطق التي تُطلَق منها القذائِف على أحياء في العاصِمة دِمشق، وتُؤدِّي إلى مَقتَل وإصابة العَديد من المَدنيين.
***
هُناك عدّة بُنود في القرار الأُممي الذي تأجّل صُدوره عِدّة مرّات لتَجنيب “الفيتو” الروسي، وعَلاوةً على حُدوث تغيّرات مُفاجِئة في طريقة التّحالفات للفصائِل المُسلّحة المُعارضة للنّظام سَتُحدِّد تفاصيل المَشهد السوري العَريضة في الأيّام والأسابيع المُقبِلة:
أولاً: القرار الدَّولي لا يُشير مُطلقًا إلى تاريخ مُحدَّد، ومُتّفق عليه، لبِدء سريان وقف إطلاق النار، وَجرى استخدام تَعبير “في أسرع وقتٍ مُمكن”، وهِي عبارةٌ مطّاطة تَحتمل تفسيراتٍ عِدّة، والوَقت الآن غَير مُلائِم حتمًا في نَظر القِيادة السوريّة وحُلفائِها، ولذلك ستَستمر المعارِك.
ثانيًا: القرار فَرّق بطريقةٍ واضِحة بين الفصائِل “المُعتدلة” والأُخرى “الإرهابيّة” واسْتثنى الأخيرة التي تَشمل “النصرة”، “الدولة الإسلاميّة” و”القاعدة”، من وقف إطلاق النار، وأباح مُواصلة القِتال حتى القَضاء عليها أو خروجها من المِنطقة.
ثالثًا: نأي كُل من “جيش الإسلام” (المَدعوم من السعوديّة)، و”فيلق الرحمن” (المُقرّب من قطر وتركيا) بنفسيهما عن الجماعات المُصنّفة إرهابيًّا، وإصدارهما بيانات تُؤكِّد التزامهما باتفاق وَقف النّار، وتَسهيل دُخول المُساعدات الإنسانيّة وحِمايتها، وهذا تطوّر مُهم يجعلهما أكثر اقترابًا من الآليّات الدوليّة، ويقربهما من لَعِب دور في العمليّة السياسيّة مُسْتقبلاً.
رابعًا: تصاعُد حِدّة القِتال الدّاخلي بين هيئة تحرير الشام (النصرة) وبين ائتلاف “جبهة تحرير سورية” الذي يَضُم فصائِل مُسلّحة مِثل فصيل نورالدين زنكي، و”أحرار الشام” في ريف إدلب، في صِراعٍ على النّفوذ، ونَجاح الأخيرة في الاستيلاء على 26 مدينة وبلدة وقرية، ممّا يَجعل من سَيطرة جبهة “النصرة” على إدلب في مَوْضِع الخَطر.
من الواضِح أن تأييد “جيش الإسلام” و”فَيلق الرحمن” لقرار مجلس الأمن والالتزام بالهُدنة، يعني أنّهما مع قَضاء الجيش السوري على الجُيوب التي تُسيطر عليها الفصائِل المُصنّفة إرهابيّة، وإعطائهما الضُّوء الأخضر للقضاء عليها، أو إخراجها من المِنطقة، أي أن مصالحهما تلتقي مع مصالح هذا الجيش، وأن الدُّول التي تَدعم هذين الفَصيلين الرئيسين، مِثل تركيا وقطر والمملكة العربيّة السعوديّة، مِثلما تُفيد الأنباء، تُؤيّدان هذا التوجّه، بطريقةٍ مُباشرة أو غير مُباشرة.
التحالف الروسي السوري الإيراني اتّخذ قرارًا بِرَدْ الاعتبار إلى اتفاق تخفيف الصِّراع في الغُوطة الشرقيّة، وتأمين العاصمة كُلّيًّا من أيِّ قصف بقذائِف الهاون الذي تصاعدت حِدّته في الأسابيع الأخيرة من قِبَل مُقاتِلي “النصرة” و”الدولة الإسلاميّة” خُصوصًا، وأكّد الجنرال محمد باقري، رئيس هيئة أركان الجيش الإيراني، اليَوْمْ “أن الهُدنة لا تَشمل الأجزاء التي يُسيطِر عليها الإرهابيون ولذلك الحَرب ستَستمر حتى القَضاء عليهم”.
المُتحدّثون السياسيون والعَسكريّون باسم الحُكومة والجيش السوري يَحرِصون على التأكيد بأنّ “الجيش الإسلامي” الذي يتزعّمه السيد محمد علوش لم يُطلِق قذيفةً واحِدة على أحياء العاصِمة، وشدّدوا على التزامِه المُطلَق باتّفاقات مَنظومة آستانة وما تَنُصْ عليه من وَقف إطلاق النّار في مناطِق تخفيف التوتّر، وهذهِ شهادة “براءة” على دَرجةٍ كبيرةٍ من الأهميّة، وسَتكون لها تَبِعات سياسيّة مُستقبليّة.
***
ما يُمكِن استخلاصه ممّا تقدّم أن القَصف الجويّ لن يَطال المناطِق التي يُسيطر عليها “الجيش الإسلامي” و”فيلق الرحمن”، وهي تُشكّل المَساحة الأكبر في الغُوطة الشرقيّة، وأن أعمال الإغاثة والمُساعدات الإنسانيّة قد تَصِل دون عوائِقٍ إليها في الأيّام المُقبِلة، ممّا قد يَنعكِس في وَقف “التّحريض” الإعلامي الذي تُمارسه مَحطّات التّلفزة العربيّة الدَّاعِمة لهذين الفَصيلين في الأيّام المُقبِلة.
السيناريو المُتوقّع الذي يَتبلور بِشَكلٍ مُتسارع خلف الكواليس حاليًّا لإنهاء الأزمة في الغُوطة الشرقيّة هو السيناريو نفسه الذي جَرى تطبيقه لإنهاء الحَرب في حلب الشرقيّة، أي فَتح ممر لخُروج مُسلّحي الجماعات المُصنّفة إرهابيًّا إلى المَناطِق الآمنة (مُؤقّتًا) التي يَختارونها، وعلى الأرجَح ريف مدينة إدلب.
تأمين العاصِمة دِمشق هو الأولويّة القُصوى ومن غير المُستبعد أن تحقيق هذا الهَدف بات وشيكًا، لأن استمرار سُقوط القذائِف يَهُز هَيبة الدولة السوريّة، ولا تُوجد دولة في العالم تَقبل بسُقوط القذائِف على عاصِمتها، مِثلما يُؤكّد الرُّوس والمَسؤولون السُّوريون والإيرانيون.
الحافِلات الخَضراء تتهيأ للوصول إلى الغُوطة الشرقيّة، ومن المُفارقة أنّها نفسها التي نَقلت مُسلّحي حلب الشرقيّة، وقبلها حمص إلى إدلب، ومن المُتوقّع أن يظهر المبعوث الدولي استيفان دي مستورا مُجدّدًا في الواجِهة للإشراف على التَّرتيبات.
الإنجاز الأبرز حتى الآن لقَرار مجلس الأمن هو وقف، أو تَخفيض أعداد الضحايا من المَدنيين الأبرياء الذين دَفعوا ويَدفعون ثَمن هذهِ الحرب الدمويّة دون أن يكون لهم أيَّ دورٍ فيها.
الأمن سَيعود إلى الغُوطةِ الشرقيّة تمامًا مِثلما عاد إلى حلب التي تتعافى حاليًّا وبِشَكلٍ مُتسارع بعد سنوات من الدَّمار وسَفك الدِّماء.. وربّما الدَّور قادِم على إدلب حتمًا.. والمَسألة مَسألة توقيت وأولويّات والظَّرف المُناسِب.. والله أعلم.