للأردن تاريخ عريق في التجربة الحزبية، فالأحزاب السياسية والحياة الحزبية ليست مسالة حديثة العهد بالنسبة للأردنيين، وإنما كانت حاضرة باستمرار في الحياة السياسية والشعبية، وشهدت محطات متعددة صعودا وازدهارا وهبوطا وانحسارا.
فمنذ قيام الدولة الأردنية الحديثة عام 1921 شهد الأردن ميلاد العديد من الأحزاب السياسية التي عنيت بالشأن العام الأردني والهموم القومية، حيث انشغل الأردنيون بقضايا التحرر الوطني السياسي والاستقلال السياسي، وسعوا إلى قيام نظام ديمقراطي يكفل حقوقهم وحرياتهم يصون كرامتهم ويحقق آمالهم وتطلعاتهم في التنمية والتقدم والرخاء، وكذالك محاربة الستعمار والصهيونية والأحلاف والمعاهدات الأجنبية ، لقد انشغل الأردنيون خلال تلك المرحلة الممتدة من عام 1921 منتصف الخمسينات بالقضايا السياسية الوطنية والقومية، رغم تدني مستواهم الاقتصادي والثقافي والعلمي، فانغمسوا بالهموم والقضايا الوطنية والقومية، وأصبح لديهم تجربة غنية بالعمل الحزبي، ونجحت الأحزاب السياسي أحيانا في تحقيق مطالبها، وشكلت أول وآخر حكومة حزبية في تاريخ البلاد، وهي حكومة سليمان النابلسي عام 1956 كما كانت كثيرا تخفق في تحقيق أهدافها، إلى أن توقفت الحياة الحزبية كليا عام 1957 حيث فرضت الأحكام العرفية وحظرالعمل الحزبي ، واستمر هذا الوضع حتى بدأت مرحلة التحول الديمقراطي عام 1989 حيث ألغيت الأحكام العرفية، ومضت ثلاث سنوات حتى تم سن أول قانون للأحزاب السياسية عام 1992م، ومنذ ذلك التاريخ حتى اليوم.
وعلى الرغم من تعدد قوانين الأحزاب السياسية والقوانين المرتبطة بها مثل قوانين الانتخاب والاجتماعات العامة وقوانين الإعلام وغيرها، لا تزال الضبابية والازدواجية في الخطاب الرسمي، والاستهداف الرسمي على مستوى الممارسة هي السمة الأساسية في التعامل مع ملف العمل الحزبي في البلاد، فعلى الرغم من أن التحول الديمقراطي عام 1989 كان واعدا بحياة حزبية نشطة، إلا أن الطريق أمام الأحزاب ظل طويلا وشاقا وملئ بالعقبات والمصاعب، فالتراجع هو السمة العامة لمسيرة الأحزاب السياسية خطوة إلى الإمام وخطوتين إلى الخلف، ولعل ما تعرض له حزب الجبهة الأردنية الموحدة من تضييق وممارسات قمعية لا تمت للديمقراطية بصلة، دليل على هشاشة التجربة الديمقراطية، فعبر مسيرة الحزب منذ نشأته حتى تم إبعاد قيادة الحزب الشرعية، عبر الحزب عن مواقف وطنية ناجمة عن القلق الشديد والشعور الحقيقي بالمخاطر الكامنة نتيجة الأزمة الحادة التي تمر بها البلاد، واتخذ الحزب مواقف مبدئية سواء تحت قبة البرلمان أو عبر مختلف منابر الحوار تجاه قضايا التعديلات الدستورية و مسالة الولاية العامة والخصخصة وتفكيك مؤسسات الدولة و قضايا الفساد والتطاول على المال العام وتبديد ثروات البلاد ، وحذر من تبعات السياسات الرسمية التي أعادت البلاد إلى مربع الأزمات السياسية الاقتصادية والاجتماعية ، واعتبر تلك السياسات جريمة بحق الوطن والمواطن، فكان أن دق المسمار الأخير في نعش الحزب على يد الوزارة المعنية بتطوير الاحزاب السياسية ، الامر الذي دفع السيد امجد المجالي الأمين العام السابق للحزب ليصرح على الملا بان الأجهزة نحرت الحزب، فتاريخيا منذ نشأة أول حزب سياسي في البلاد عام 1927 وهو حزب الشعب الأردني حتى اليوم.
نلاحظ أن الأحزاب الوطنية ذات المواقف الوطنية التاريخية قضت نحبها، وانفرط عقد أعضاءها، فيما بقيت التجمعات الشخصية التي تعبر عن مصالح فئات معينة، ولا يمكن اعتبارها أحزاب سياسية بالمعنى الحقيقي للكلمة تتغنى بالانجازات والديمقراطية في البلاد، ولعل التجربة المريرة لحزب التيار الوطني خير دليل على إطلاق الحكومة رصاصة الرحمة على الحياة الحزبية في البلاد، فحزب التيار الوطني ولد في رحم النظام السياسي وكان اقرب الأحزاب إلى السلطة، إلا انه اضطر مؤخرا للإعلان عن حل الحزب احتجاجا على الممارسات الرسمية تجاه الأحزاب السياسية ولا تريد الدخول في تفاصيل المواقف المناوئة لحزب جبهة العمل الإسلامي الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين ومحاولة شق صفوفه عبر تشجيع وتمويل إنشاء أحزاب سياسية تخرج من رحم الحزب الأم حزب جبهة العمل الإسلامي.
لم تسجل التجارب الديمقراطية الإنسانية نجاح مسيرة ديمقراطية تكون فيها الأحزاب السياسية مغيبة وتعاني من التقييد والعداء والتشكيك حد الاتهام، إذ انه من الصعوبة بمكان تصور نجاح التجربة الديمقراطية في ظل نظام سلطوي يمارس التضييق على الأحزاب السياسية وخصوصا المعارضة، وخصوصا في الحالة الأردنية فان أكثرية الأحزاب السياسية تجمع على أن التوجه العام هو ضد العمل الحزبي وأعلنت الأحزاب مرارا احتجاجاتها ممارسات وسياسات رسمية مناوئة للعمل الحزبي فرغم كثرة الحديث عن الإصلاح السياسي وتعزيز المسيرة الديمقراطية وتكوين مجتمع ديمقراطي، إلا انه عمليا لا توجد إرادة أو نية سليمة لتطوير العمل الحزبي، وقد يبدو للبعض أن المجال السياسي رحب ومنفتح إلا انه لا زال يضيق بالأحزاب السياسية وكان برامج وأهداف هذه الأحزاب مخالفة للاماني المصالح الوطنية.
محنة الأحزاب السياسية في الأردن اليوم تكشف حقيقة لا مجال لإنكارها وهي أن الأردن يعاني مأزق في الديمقراطية ، وهذا المأزق ربما يكون سبب رئيسي لما تعانيه البلاد من احتقان وتوتر وعنف وفساد وواقع سئ على أكثر من صعيد ، فالمواطن غير شريك في صنع القرارات التي تمس حياته.
إن الديمقراطية الشكلية أو المزيفة هي اخطر أنواع الاستبداد، والتظاهر بالديمقراطية من خلال أحزاب صورية أدى إلى تقويض الحقوق والتراجع على صعيد ممارسة الحقوق السياسية التي كفلها الدستور.
إن الأوضاع السابقة تشير إلى أن هناك أيدي خفية تعمل بالرغم من صراحة الدستور على حق الأردنيين في تأليف الأحزاب السياسية والانتساب إليها، لا تنفك تعمل لإبعاد الناس عن العمل الحزبي حتى جعلت المجتمع يصل إلى اعتقاد راسخ أن العمل الحزبي مضيعة للوقت، لا بل مجلبة للضرر إذ يتخوف المواطن من أن يضيع حقه في الحصول على فرصة عمل إذا كانت عليه شبهة الانتماء لحزب سياسي، رغم شرعية و دستورية وقانونية هذا الحزب.
فالعقلية الأمنية في التعامل مع الأحزاب السياسية لا تزال أسيرة هواجس ثقافية تعود إلى حقبة الخمسينات من القرن الماضي.
علينا أن نتعرف جميعا أن فشل التجربة الحزبية في الأردن يعكس عيوب جوهرية في النظام السياسي لا بد من الوقوف عندها من اجل تشخيص الأسباب، ومعرفة مواقع الخلل والسعي لاصلاحها ، ففي ظل غياب إستراتيجية وطنية متكاملة لحياة حزبية نشطة فان استمرار تعثر وفشل الأحزاب السياسية يمس شرعية النظام التي من ركائزها الديمقراطية والتعددية والمشاركة السياسية ، فلا بد من تسوية تاريخية بين النظام والأحزاب السياسية بحيث يتم التوصل إلى معادلة يؤمن فيها النظام وكافة مؤسساته إن الأحزاب السياسية هي ضرورة من ضرورات الديمقراطية وانه لا ديمقراطية دون أحزاب سياسية فاعلة ونشطة ومؤثرة في القرار السياسي، ففي ظل غياب الثقة بالأحزاب السياسية لا يوجد أدنى أمل بحياة ديمقراطية سليمة، وهذا يستلزم فك الاشتباك بين الأمني والسياسي فاختلاط الأمني بالسياسي يعمق من ضبابية الرؤية ويبقى الطرفان يدوران في حلقة مفرغة ولا بد أن ينتج عن فك الاشتباك خلق بيئة وطنية جاذبة للعمل الحزبي وكذلك رفع كافة القيود عن الأحزاب السياسية واعتبار تقوية الأحزاب السياسية مصلحة وطنية.
وبخلاف ذلك فان البديل هو ذهاب المؤمنون بالعمل الحزبي إلى العمل السري وإنشاء أحزاب تحت الأرض لها أجندات مختلفة عن ما نردد من أقوال حول الثوابت الوطنية، ويكون الجميع خاسر نتيجة هذا الوضع ولا سيما فئة الشباب اللذين يشكلون أغلبية المجتمع الأردني اليوم واللذين ذهبوا ضحية سياسات حكومية متعاقبة أبعدتهم عن الأحزاب السياسية ، فارتمى بعضهم في بيئات العنف والتطرف والانتماءات الفرعية من عصبيات اجتماعية وجهوية وعشائرية.
إن الأردن اليوم يواجه تحديات كثيرة ولا تقل خطورة عن ما كان يتهدده من إخطار في الثلاثينات أو الخمسينات من القرن الماضين حيث العدو الصهيوني اطماعه ومشاريعه التآمرية على البلاد، والأخطار الداخلية من فساد وعنف وفقر وجريمة ومخدرات وغيرها، وقد نجح الأردنيون في الماضي في مواجهة الأخطار والتحديات والعبور إلى بر الأمان، وكانوا أكثر إيمان بالعمل الحزبي وأكثر التزام بالمبادئ والمثل وأكثر استعداد للتضحية والدفاع عن الوطن، فهل تغيرت أخلاق الأردنيون وتبدلت طبيعتهم، فأصبحوا اقل التزام بالمبادئ واقل حرص على الوطن؟ وهل لديهم خيارات اخرى غير التمسك بالمشروع الوطني ؟ هل نخرب ما أسسه أسلافنا من البناة الأوائل وتهدم ما بنوه؟ إن هذا مرض سياسي خطير يؤدي إلى الدمار لكل ما بناه الأردنيون من قيم ومنجزات عبر مسيرة طويلة شاقة تمتد إلى ما يقرب قرن من الزمان.
على القوى التي تقف عائقا أمام العمل الحزبي أن تدرك قبل فوات الأوان أنها بإجهاضها الحزبية تعيق المسيرة الديمقراطية وتناقض الرؤى الملكية لمسيرة الإصلاح والديمقراطية في البلاد، وبذلك تفوت الفرصة على نشر قيم الحرية والحوار والتسامح ونبذ العنف والتطرف من اجل بناء مجتمع المواطنة والمشاركة والعدالة والمساءلة، وعلى اصحاب القرار مراجعة مواقفهم وسياساتهم تجاه مسألة الحياة الحزبية كجزء اصيل من التقاليد الديمقراطية، إذ ليس امامنا الكثير من الوقت للانتظار والتأمل .
إننا نخشى إذا استمر الأمر على هذا الحال أن يتفاقم الخطب ويجر على البلاد والعباد ويلات لا تحمد عقباها، وهذا أمر لا يرضاه أي مواطن غيور على وطنه، وان رأينا هذا نقوله بإخلاص وحسن نية، وندعو إلى النظر إليه يعين الرضا، وندعو الله أن يسدد خطانا لكل ما فيه خير البلاد، ونحن على اتم الاستعداد لان ندفع الثمن له حريتنا ومستقبلنا ودماؤنا عند لزوم الأمر.
* رئيس الجمعية الوطنية لتعزيز الدول المدنية.