لقد تمّ طوي ملف تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (د.ا.ع.ش) وبتسارعٍ لافت، حيث فقد التنظيم وفي غضون عامٍ واحدٍ معظم المدن والقرى والمساحات التي سيطر عليها لسنوات، وخاصةً الموصل والرقة.
قوى البشمركة الكرديّة ساهمت في جهود هزيمة التنظيم، وليس هنا محور الحديث عن النيّة المبيَّتة للأكراد في مشاركتهم في تلك الجهود، لكنّه بات من الواضح بأنّ الاستفتاء على استقلال كردستان-العراق تَبِعَ مباشرةً تقهقر وطرد قوى (د.ا.ع.ش) من المواقع في شمال العراق وشرق سوريا.
الجميع يؤكد على "حرصه" على وحدة العراق ووحدة سوريا، وهذا مجرّد موقف للاستهلاك الإعلاميّ والعلاقات العامة واللباقة الدبلوماسية لا أكثر، فقد أثبتت (بعض التسريبات وبعض التصريحات الإعلامية من أطراف شتى) على الرغبة العميقة في تقسيم وبلقنة الدولتين انسجاماً مع المصالح الضيًقة والآنية لبعض الأنظمة العربية، ولعل هذا ينسجم وبكل أسف مع حقيقة الموقف والمصالح الأمريكية والإسرائيلية.
علينا الاعتراف اليوم كعرب، وبكل مرارة، بأنه لولا التدخل المباشر والقوي لإيران في العراق ودعمها الكامل للحكومة العراقية المركزية في بغداد في جهودها لتحرير المدن العراقية من داعش، لكانت المسألة أكثر تعقيداً ودموية، ولربما استطاع الأكراد فرض الأمر الواقع على الأرض وتنفيذ مخطط الانفصال، ولربما كان من الصعب هزيمة داعش نظراً لما يعانيه الجيش العراقي والحكومة العراقية من مصاعب ومعضلات في مناحٍ شتى. كما أنه بات واقعاً بأنه لولا التدخل الروسي والإيراني في سوريا، لكان من الصعب طرد داعش وإفشال مشروع التقسيم الذي بات واضحاً بأنه هو بالذات المخطط الأكثر عمقاً لمعظم ما جرى ويجري على الأرض.
لا يمكن لأي عربي أن يرحب بأي تدخل خارجي في شؤون الدول العربية وسيادتها واستقلالية قرارها، لكن مجريات الأمور وتطوراتها (فيما يتعلق بالتحرك الكردي و تنظيم الدولة) لم تدع للنظامين السياسيين في بغداد ودمشق أي خيارٍ آخر غير قبول الدعم من روسيا وإيران، ولم يَعُد سراً على أحد بأنه ولولا ذلك التدخل العسكري والمادي والمعنوي لكانت (خارطة الشرق الأوسط الجديد) واقعاً ملموساً، فقد كانت النيّة تتجه لتقسيم العراق إلى ولاية جنوبية للشيعة ودويلة فقيرة غرباً للسنة وإقليم كرستان الكردي شمالاً، وتمّ طرح هذا الخيار رسمياَ ومباركته من الأمريكيين وطلبه بإلحاح من الصهاينة، كما كانت النية تتجه كذلك لتقسيم سوريا لجيبٍ كردي صغير، ودويلة ساحلية للنظام والمدن المؤيدة له ويغلُب على سكانها التشيع، ودولة أخرى للسنة تمتد إلى درعا.
التحرك العسكري الأخير للجيش العراقي ومؤيديه من الميليشيات باتجاه كركوك، أثبت وبوضوح، بأنّ وحدة العراق وقدرة الحكومة العراقية على الفعل والتأثير قد باتت حقيقة واقعة، وأنه على الأكراد التنبّه إلى أن هنالك حقائق جديدة باتت تفرض على الأرض، فالأمريكيين تراجعوا عن دعوات التقسيم وباتوا يؤكدون على وحدة البلاد، والأتراك يحاكمون الجاسوس الأمريكي اليوم، وواضح بأن الدول العربية التي كانت تتخذ مواقف سلبية تجاه الحكومة العراقية والسورية قد عدلت عن مواقفها السابقة وباتت أمام حقائق تؤكد على أن روسيا وبكل حضوتها العالمية مضافاً إلى الحضور الإيراني الفاعل وبكل الميليشيات المؤيدة قد باتت حقيقة واقعة، وأن سيناريو الإرباك الداعشي و دعم الحراك الكرديّ على نيّة تشويش المشهد وخلط الأوراق قد فشلت وبالكامل.
السيناريو الأكثر ترجيحاً، أنه في غضون عام واحد، سوف يتم استعادة وحدة الأراضي العراقية بالكامل، وسوف يتم التفاهم مع الكرد على فيدرالية مرضية للطرفين، ومرضية للدول الأربع المعنيّة بالشأن الكردي كذلك، كما أنه من الأرجح بأن الحكومة السورية سوف تتمكن من استعادة السيطرة على كامل الأراضي السورية. في ظل هذه القراءة الاستشرافية، فإنه لا بد للجميع من مراجعة المستويات المرتفعة للثقة بالإرادة الأمريكية والأمنيات الإسرائيلية وفي قدرتها على تغيير الحقائق، لأننا اليوم أمام لاعبين إقليميين بحضور كامل وقوي، روسيا وإيران وتركيا، ويبدو أنه لن يتم فعل شيء أو تغيير واقع بدون التوافق مع هذه القوى المذكورة.
الأمريكيون ومن خلفهم إسرائيل، عازمون على إعادة ترتيب الأوراق بما يحقق المصالح الاستراتيجية لكليهما، وليس مستبعداً التحرك الإسرائيلي في ضرب حماس في غزة و ضرب حزب الله في سوريا والجنوب اللبناني كمدخل جديد لقلب الموازين والحقائق الجديدة. وليس خافياً الإحماء الأمريكي باتجاه إيران ونوايا إلغاء الاتفاق النووي، على نيّة خلق ذرائع لضرب مشروع إيران التسلحي، وتحجيم وجودها على الأرض في سوريا والعراق.
دخول القوات العراقية الاتحادية إلى كركوك اليوم، هو رسالة واضحة بأن مشروع البلقنة للمنطقة العربية قد فشل، وأنه لا يمكن تجاهل القوى الإقليمية الرئيسة، مصر وتركيا وإيران، عند الخوض في أي ملف يخص المنطقة وترتيباتها.