-1- مصطلح " تطبيع " في المشرق العربي مخيفة ولها أثار نفسية سالبة على الافراد و الجماعات و المؤسسات ، لأنها تعنى علاقة مشبوهة مع الكيان الصهيوني المحتل للأراضي الفلسطينية، ونهضت من أجل مكافحته مؤسسات من المجتمع المدني لأنه في نظرها كالوباء أو الأمراض المُعديه، التي ينأى عنها الناس فتظل قابعة في أقبية الغرف المغلقة ، لا تمثل على الإطلاق إحساساً شعبياً صافياً .
أما في السودان الذي دخل إليه الإسلام من بوابة الطرق الصوفية الرحبه وغيرها من منافذ متعددة ، أورثته شحنات واسعة من التسامح ، والزهد ، واليقين ، لفترات متطاولة من تاريخنا الحديث والقريب ، قبل أن تهب رياح المدنية الذي يعصف بقوة....ما زال الريف السوداني يحتفظ بعذريته المتدفقة طهراً وحياءاً ، ولذا كلمة ( مصلحة ) مع أنها كلمة نظيفة اليّد إلا أنها مسجونه داخل الغرف و جلسات التفاوض الممتدة ولا تقترب من وجداننا الجمعى مُدانة في المذاهب الأربعة ، فهي مرادفٍ لكلمة الاستغلال ، ولذا يستحي الكثير من السودانيين في التعاطي اليومي مع هذه الكلمة . أما إستخدامها في الدولة أُستعيض عنها كلمات أخرى لتتخلص كثيراً من الحياء الشعبي للتداول في السياق الإقليمي و الدولي ، أو ربما تحايلوا على ( المصلحة ) خاصة عند الاسلاميين الذين مازلوا على النقاء القديم .
( بروف غندور) الذي نال قدراً هائلاً من الثناء المستحق بعد رفع العقوبات الإقتصادية ، نتاج من سلسلة طويلة من حالات النجاح والإخفاق لتجربة الإسلاميين في الحكم ، فيبدو أن في زمنه قد إستقرت كلمة " مصلحة " في التداول السياسي من غير حذرٍ أو ملابسات تظلل الكلمة بغيوم سالبة ، غير أنه ( البروف ) قد جاء – تماماً – في زمان الشفافية والبوح الصريح ، وهو يتمتع في هذا الصدد بقدرات مهنية فائقة .
-2-
التجريب الذي مارسه الانقاذ على مدى السنوات الماضية ، كأول تجربة حكم ثوري في العالم الإسلامي السني ، أوقعتها في العديد من الأخطاء الكبرى ، وأيضاً الكثير من الإنجازات المدهشة في عالم أحادي القطب.
الآن وقد نضجت ثورة الإنقاذ وإستقرت على الجودي ، وتجاوزت إحدى العقبات ( الكؤود) التي عولجت بطريقة مغايرة تضافرت فيها أجهزة الدولة في تناغم لم تعهدهُ الحكومة من قبل. في إعتقادي أن نموذج التعامل مع مسألة رفع العقوبات الإقتصادية الأمريكية عن السودان ، نموذج رائع تُحل به كل القضايا الخارجية والداخلية ، بمعنى ان اسلوب الجمعي هو الاقرب للطريقة المثلى وكلما تباعدت المسافة عن التنسيق والعمل ( الهارموني ) ومالت للفردية وإثم التمترس بالمهنة كلما حادت كل المسائل عن جادة الطريق ، وهذا ما يجب على الحكومة أن تمضي عليه لإصلاح الدولة ، أن تعمل كل مؤسسات الدولة كفريق واحد لخدمتها قاطبة ، هذه المفاهيم (أولية) لنسق الدولة ، لكنها تغيب في مرات كثيرة لتعاد الأخطاء بذات الطريقة السابقة ولكن في وقت قاتل يُعرّض الأمة السودانية لخطر محدّق .
خصوصية الأجهزة الحكومية لابد أن تُراعى حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، المسافة بين التنسيق وتداخل الاختصاصات كشعرة معاوية ، ولذا ينبغي الإعتبار لهذا العمل الباهر الذي أدى لهذه النتيجة المرضية .
المتابع للفرح السوداني في مواقع التواصل الإجتماعي يكتشف ميلاً جديداً حاذقاً للسخرية ، وتسيساً للطرفه لا مثيل له ، في وقت سقطت المعارضة سقوطاً مُريعاً في الوطنية ، فقد آثرت الوقوف إلى جانب العقوبات نكاية للحكومة ، التي تنتاشها وتتهمها بالثراء الحرام ، في الوقت الذي يصاب المواطن السوداني بالإنهاك العام ، مفارقة عجيبة !!
-3-
رفع العقوبات الإقتصادية عن السودان ، بمثابة عودة حميدة للتعامل مع النظام المالي الدولي ، وهذا ما حُرمنا منه زمناً طويلاً من غير إرادتنا في أغلب الأحيان ، وبعضها بأخطائنا التي استغلها الأعداء ليشوهوا صورة الوطن.
المسارات الخمس التي إشترطتها أمريكا و التي أنجزت الحكومة مطلوباتها ، من صميم مخرجات الحوار الوطني ، ووثيقته الوطنية التي نهض الرئيس بانقاذها ، وعلى تعاهدات " البشير " برمزه الوطني الضخم تنادت كل المكونات السياسية والمجتمعية على وعد الرئيس البشير بتنفيذ الوثيقة الوطنية التي أفرزها الحوار الوطني ، ولذا لا تحتاج القيادة السياسية إلا إنزال المخرجات على الواقع السياسي ، بدون تردد أو وجلْ أو ضغط ، إنما الإرادة السياسية الوطنية الحرة .
القيّم الإسلامية الكبرى في الحرية ، والسلام وحقوق الإنسان والشفافية ومكافحة الإرهاب ، من الثوابت التي بُنيت عليها دولة الإنقاذ ، أحق بها من غير حِجر على أحد في التسابق الإنساني على تنفيذ هذه المجموعة الخيّرة من المبادئ التي تعبر عن العقيدة والموروث الجمعي لإنسان السودان سياسةً و إقتصاداً .
لا يود السودان أن يصّدر ثورة أو يستهدف نظاماً أو جاراً أو ينتقد صديقاً ولا يدّعي العصمة ، فالاخطاء مثل زبد البحر كل الامر ان تَصُوب الهمم والقدرات للنهضة وان نسوي بنان الوطن كله حتى ننجز المشروع الذي نبغاه !!!
( المصلحة) كلمة طيبة أصلها ثابت وتؤتي أُكلها فيجب ان لا نُحمّلها اكثر مما لا تحتمل حتى تبدو طبيعية ولائقة للتداول العام من غير تجريم او إيحاءات بالانتهازية !!
* كاتب وصحفي سوداني