الرئيس الأمريكي الحالي (دونالد ترمب) والذي روج لنفسه في الحملة الانتخابية كرجل أمريكي حقيقي، أبيض و ضخم، ذي نبرة عالية، وفاحش الثراء، و منسجم مع القيم الأمريكية المستندة إلى الفردية والمادية و المغامرة ... لم يعد في نظر النخب و العامة في أميركا كذلك.
ترامب، لم يأت من (الدولة العميقة) في الولايات المتحدة الأمريكية، وليس مصنف من ضمن (النخبة السياسية) العريقة هناك، فهو مجرد رجل ثري جدا، استطاع أن يوظف المال والإعلام في خدمة السياسة، مرتكزا على فشل إدارة (باراك أوباما) في استعادة أمجاد أميركا في العالم، بعد التعثر الاقتصادي و الديبلوماسي في معظم الملفات.
منذ اليوم الأول في رئاسته، بدأ (ترمب) سلسلة من التخبطات، فمرة يتناقض مع السلطة القضائية، ومرة يعزل رموز الدولة العميقة في الأجهزة الأمنية، ومرة يتجاهل كبار رجالات و مستشاري البيت الأبيض، حتى وصل الأمر إلى عزم السلطات إلى بحث موضوع إقالة الرئيس (Impeachment) نظرا لحجم التخوف من تبعات قراراته و مدى انسجامها مع الخط العام للدولة الأمريكية و مصالحها، خاصة بعد اللغط الدائر حول زوجته، و صهره، و الاتصالات التي تمت مع الروس قبيل انتخابه، و تهم تسريب أسرار الدولة.
الرئيس الأمريكي مأزوم، وهو مضطر إلى تصدير الأزمة للخارج، وليس أفضل من حرب سهلة و سريعة و مضمون الانتصار فيها لكي يضمن استمرار ولايته، والظهور كرئيس حقيقي فاعل. لكن يبقى السؤال: حرب ضد من؟
كوريا الشمالية تبدوا العدو الأكثر صلفا في التاريخ الأمريكي، فرئيسها يهدد علانية بتدمير أميركا بالصواريخ النووية. السؤال هنا: هل يمكن ضرب كوريا ؟ و بأي قدر؟ و ما هي ردة الفعل الممكنة؟ في الحقيقة تستطيع أميركا (و ربما بغطاء أممي) إذا تجاهلنا الموقف الصيني أن تضرب أهدافا حيوية لكوريا و ذلك بفضل القدرة العالية للجيش والاستخبارات والبحرية و سلاح الجو الأمريكي، لكن السؤال مازال قائما: ما هو حجم العدوان؟ أمام أميركا خياران: أما ضربة سريعة لعدد من قواعد الدفاع الجوي الكورية، و المطارات، و قواعد الصواريخ بهدف تعطيل القدرات الهجومية التي يمكن استخدامها في أي رد متهور من الكوريين. أو أن تشن أميركا حربا تدميرية شاملة و بعيدة الأمد لكي تخرج منها كوريا منهكة مستسلمة بالكامل، ولكن هذا يتطلب استنزافا كبيرا للقدرات العسكرية الأمريكية كما أن كلفته مرتفعة ومدته طويلة و لا يمكن التنبؤ بموقف الصين من هذا الأمر، والأخطر من ذلك احتمالية الرد النووي الكوري في لحظة غضب جارفة من الرئيس الكوري والذي يبدوا قابلا لتحقيق مثل هذا التهور.
الخيار الكوري معقد، و يزداد خطرا بسبب موقف الصين و المخاطرة بالرد النووي، و كلا من السيناريوهين بالغ الخطورة في حالة الضربة السريعة أو الشاملة لكوريا. والأفضل الاكتفاء بعقوبات متنامية ضد الكوريين مع حرب باردة على كل الصعد، أملا في تحجيم القدرة الاستراتيجية لكوريا و تدميرها اقتصاديا و إلكترونيا و سياسيا.
ماذا بشأن إيران؟ تبدو مهمة أسهل من كوريا الشمالية عموما. فإيران لم تمتلك السلاح النووي بعد، و هنالك الكثير من الدول العربية راغبة في ضرب طهران، والأكثر حماسة أولائك في "إسرائيل" والذين يحثون العالم على تدارك الخطر الأكبر على الصهاينة في المنطقة، لكن الأمر ليس بتلك البساطة، فهنالك أيضا أبعاد ينبغي دراستها قبل قرار الحرب، هي: حجم الضربة، ورد الفعل، وموقف روسيا، والأثر في سوريا والعراق و اليمن ولبنان.
في سيناريو الضربة الأمريكية الضيقة لبعض الأهداف الإيرانية المحدودة والتي تعتبر أكثر أهمية في المقاييس العسكرية، كالمحطات النووية، و المطارات، و قواعد الصواريخ، تستطيع عملانيا أميركا أن تلحق خسائر فادحة بالقدرات العسكرية الدفاعية والهجومية لإيران، ويبدو أن هذا الأكثر ترجيحا، حيث يتوقع أن تمتص إيران الصدمة و تجهد في إعادة تشغيل وبناء ما تم تدميره، وبالتالي ضمان تعطيل البرنامج الحربي والنووي لعقد بأقل تقدير. في المقابل ستكتفي إيران بالرد في جبهات أخرى ومن ضمنها الأهداف الإسرائيلية من جنوب لبنان، و القوات الأمريكية المتواجدة في العراق و سوريا، وربما تتمكن من تعطيل الملاحة وشحن النفط مؤقتا في مضيق هرمز و باب المندب عن طريق الحوثيين باليمن.
أما سيناريو الضربة التدميرية الشاملة لإيران، فهو أمر مستبعد، نظرا لكثرة الأهداف، واتساع المساحة الجغرافية، و التخوف من إلحاق الضرر بأمن إسرائيل إذا ما انهالت عليها الصواريخ البالستية الإيرانية التي تتخطى قبتها الحديدية، كما أن الكلفة مرتفعة جدا، و لا نتحاهل المفاجآت التي قد تواجهها أميركا في المنطقة من العناصر الحليفة لطهران كحزب الله و الحوثيين و ميليشيات الحشد الشعبي.
اليوم، بات محتما على (ترمب) أن يخوض حربا، لتفادي عزله، ولتحسين صورته، و إرضاء لمجمع الصناعات الحربية الأمريكي، ولكن سوء حظه جعله أمام خيارات بالغة التعقيد، فهو غير قادر على أن يضمن نتائج المعركة وتداعياها، برغم حجم تهوره الظاهر.
الأرجح أن ضربة سريعة و دقيقة و منتقاة لأهم معالم البرنامج النووي و الصاروخي الإيراني هي السيناريو الأكثر تفضيلا من الجميع، و سوف يحقق أكبر المكاسب وبأقل الكلف. يبدو أن ترمب في طور دراسة تفاصيل تلك الضربة حاليا.