بعد سنوات من تبني الرئيس التركي أردوغان سياسة متشددة، وصلت الى درجة الإصرار على رحيل الرئيس الأسد في إي تسوية سياسية، وترجيح الحل العسكري لإسقاط النظام السوري، وبل ذهب أبعد من ذلك حيث فتح أبواب بلاده لعبور الجهاديين الى سورية وأنشأ معسكرات لتدريبهم باعتراف الغرب، لكنه اليوم لم يفاجئنا بالتراجع عن موقفه في سورية، إذ صرح "ان تركيا على اتصال مع العاصمة دمشق والعراق والعاصمة طهران بشأن التطورات في المنطقة، وأن أنقرة تعمل من أجل تعزيز وحدة العراق وسورية معتبرا أن الخرائط التي ترسمها إدارة شمال العراق أمر لا يمكن السماح به وتركيا تتواصل مع دول الجوار لحل هذه المشكلة "، الأمر الذي شكل صدمة كبيرة لحلفاء تركيا من المعارضة المسلحة، لكن السؤال الأكثر إلحاحاً والذي أصبح هاجساً لكل صُناع السياسة حول ماهية الوضع المتوقع ما بعد زيارة الرئيس أردوغان لطهران، وما ستؤول اليه الأمور على المستوى الإقليمي والدولي وتحديداً فيما يخص الأزمة السورية.
لا شك أن زيارة أردوغان لطهران تدل على تقارب في العلاقات بين تركيا وايران اللتين عارضتا بشدة الإستفتاء الأخير حول إستقلال إقليم كردستان العراق، وتؤكد هذه الزيارة أن هناك تفاهمات تصل إلى حد التطابق بينهما، فالوضع الراهن في العراق جمع طهران وأنقرة في خندق واحد لأن الإنقسام له تداعيات كارثية وخطيرة على الأتراك والإيرانيين، الذين سيقفون ضد تقسيم العراق وسيحاولون منع الأكراد مـن الإسـتقلال ودعم الحكومة العــراقية، كونهما أكبر المتضررين من تشكيل دولة كردية مستقلة في شمال العراق، نظراً لوجود نسبة كبيرة من الأكراد في كل من إيران وتركيا، مما قد يؤدي إلى دعوات مشابهة من قبل الأكراد في كلا البلدين، في هذا الإطار جاء توقيت زيارة أردوغان لطهران مهم جدا فى ظل هذه الظروف الصعبة التى تمر بها المنطقة حالياً، لذلك يمكن وضع هذه الزيارة في سياق التعاون والتنسيق والتشاور المستمر بين البلدين إزاء ما يحدث في المنطقة لبلورة رؤية مشتركة.
في سياق متصل كانت تركيا تراقب المكاسب التي حققها الأكراد السوريون بقلق ولم تكن راضية عن التعاون الأمريكي ـ الكردي في سورية لأن طموحات الحزب الكردي هي إقامة كانتون يربط مناطق شمال شرق سورية من عين العرب وعفرين والحسكة بمنطقة واحدة وهذا ما ترفضه تركيا، ومن هذا المنطلق، أصبحت خريطة سورية المستقبلية واضحة بالنسبة إلى أردوغان، فالأكراد سيكونون جيرانَ تركيا الحدوديين، وهذا كابوس لتركيا، فهي لا تريد أن يتكرَّر في سورية نموذج العراق، أي ولادة كانتون كردي على الحدود، وإزاء هذه التطورات أصبحت محادثات السلام غير ممكنة بين تركيا والأكراد وأكد الرئيس التركي مراراً وتكراراً أن السلام مع حزب العمال الكردستاني مستحيل، ووفقاً لذلك فإن الرئيس أردوغان سيجد نفسه مضطرا للوقوف على أبواب دمشق خاصة إذا ما أقرت سورية نوعا من التفاهم مع الأكراد, وعندها سيجد نفسه أمام مأزق صعب وخطير من أجل توقف التمدد الكردي في الجنوب والشرق تضاف إلى أزمته الكامنة مع العلويين الأتراك الذين تتراوح أعدادهم ما بين 14 - 20 مليوناً.
في ظل التغيرات الميدانية التي تجري فيما يتعلق بالحرب على الإرهاب، فإن الجيش السوري بات اليوم على مقربة من إعلان نصر إستراتيجيٍ لا سيما بعد هزيمة داعش في دير الزور، هذا الإنتصار كان نكسة للقوى المتطرفة وللسياسة الأمريكية في المنطقة، فواشنطن التي لم تتأخر يوماً عن دعم الإرهاب، أصبحت تجد نفسها اليوم أمام واقع مُغاير رسخه الدور الروسي الإيراني في سورية والمنطقة بأكملها، فالتدخل العسكري الروسي في سورية بالتنسيق مع ايران، قلب المعادلة في سورية، و إستطاع الجيش السوري إستعادة وإسترداد المناطق القابعة تحت سيطرة داعش والقوى المتطرفة الأخرى، بالإضافة الى دفع أمريكا إلى السعى للتوصل لحل سلمي للأزمة لأنهم أدركوا بعدم قدرة حلفاؤهم من المسلحين داخل سورية على حسم المعركة لصالحهم بسبب صمود الجيش السوري وحلفاؤه، كل ذلك يؤكد بان سورية اليوم ترسم ملامح العزة والكرامة رغم كل المؤامرات التي تحاك ضدها وأن خطاب النصر النهائي الذي سيعلنه القائد العام للجيش والقوات المسلحة بات قريباً، وأن معارك داعش باتت نهايتها قريبة على اقل تقدير في سورية.
في المرحلة الراهنة، تسعى تركيا إلى مغازلة دول المنطقة التي كانت تختلف معها حول الأزمة السورية وعلى رأسها إيران، لذلك تعتبر زيارة أردوغان لطهران بمثابة مبادرة تركية من أجل وضع حد للنزاعات التي تعصف بالشرق الأوسط وخاصة النزاع في سورية، وذلك لإعادة الاستقرار إلى المنطقة، ومن هذا المنطلق بدأت قاعدة المصالح المشتركة التي تحكم العلاقات الإيرانية التركية تتقدم مجدداً بعدما تراجعت على وقع الأزمة السورية..
مجملاً.... إن الدور السلبي لأردوغان في سورية، لم ولن يكون في صالح تركيا، فمن الخطأ تصور أن بإمكان تركيا أن تنعم بالأمن والإستقرار، فيما ألسنة النيران تشتعل في سورية، فالتجربة أثبتت أن الأمن القومي لأي بلد من بلدان المنطقة يرتبط إرتباطاً عضوياً مع أمن الإقليم ،وأن طريق تركيا نحو الإزدهار الإقتصادي يمرّ بالضرورة على دمشق، وأنه في حال بقاء طريق دمشق مغلقاً في وجه تركيا، فلا يُستبعد أن ينهار الإقتصاد التركي بشكل كبير، وبإختصار شديد يمكنني القول، إن التطورات والمشهد المعروض يشير إلى أن الأيام القادمة ستشهد تبدلاً كبيراً على الساحة السورية، خاصة ان الطرح الروسي لحل الملف السوري يدعمه التوافق الإيراني والدول الصديقة المختلفة.