لم يشهد المعنيون بالاقتصاد الأردني ظروفا أكثر سوداوية من هذه التي يمر بها البلد منذ الأزمة الاقتصادية الكبرى عام 1989 ، ولعل البعض يكاد يرى اليوم سيناريو أزمة يقارب وإلى حد بعيد ما حدث في ذلك العام المشؤوم.
وقتئذ طغت مؤشرات (نسبة المديونية والتضخم و انهيار سعر صرف الدينار) على المشهد الاقتصادي، فكان أن أمسك (البنك الدولي) بملف الأزمة واضعا برنامجا قاسيا للتصحيح الاقتصادي، كان من أبرز مطالبه رفع الدعم الحكومي عن بعض السلع، و التوجه لتحرير الأسعار، وخطة ضريبية لتعزيز الإيرادات وخفض عجز الموازنة، و تقليل نسب الدين العام، مع قرارات تبني آليات السوق الحر و نهج الخصخصة.
ربما يغفل كثيرون (قصدا أو سهوا) تناول الملف السياسي المتزامن وقتها ( عام 1989) جنبا إلى جنب مع الملف الاقتصادي، فقد رفعت الأحكام العرفية، و تم انتخاب مجلس نواب من بعد تعطيل، و تم إنجاز قانون الصحافة، وقانون الأحزاب، وغيرها من مؤشرات الانفراج السياسي الذي خفف وطأة الأزمة و كان مطلبا أساسيا لاستلام البنك الدولي للملف الاقتصادي وقتها.
لا بد من استعراض أبرز الحقائق الاقتصادية ابتداء، قبل الخوض في تفاصيل الأزمة و آفاق الحل. و ستكون مؤشرات (عام 2016) كأرقام فعلية هي المرجع، مع التنبه لوجود بعض التباينات في هذه القيم حسب المصدر.
الناتج الإجمالي المحلي GDP (39 مليار دولار) ؛ بنمو فعلي ( 2.8%) ؛ ودين عام نسبته ( 91% ) من الناتج الإجمالي المحلي؛ ودين عام قدره ( 26 مليار دولار) ؛ التضخم بلغ ( - 0.8%) ؛ أما الموازنة العامة، فقد حققت إيرادات قدرها ( 8.6 مليار دولار) ونفقات ( 11.2 مليار دولار) وعجز موازنة بنسبة ( 6.5% ) ؛ البطالة كانت ( 15%) ؛ أما الميزان التجاري: فقد بلغت الصادرات ( 7.1 مليار دولار )، والمستوردات ( 17.8 مليار دولار) أي بعجز تجارة قارب ( 10 مليارات) ؛ نسبة الفقر تجاوزت ( 14% ) من السكان ؛ أما حجم القوى العاملة فقد بلغ (2.2 مليون شخص ) ؛ وكان ( 78% ) منهم عاملين في قطاع الخدمات ؛ مع ثبات سعر صرف الدولار الأمريكي مقابل الدينار على النسبة "المقدسة" في حدود ( 0.71 ).
عبر قراءة سريعة لهذه المعطيات، نجد بأن غالبها سلبي المشهد، ومن أغربها تراجع التضخم ليصبح سالبا، وهذا عائد لتراجع سعر النفط و تراجع الطلب على السلع والخدمات كأبرز مؤشرات الكساد. كما أن ثبات سعر الصرف للدينار بقي شبه ثابت على مستوياته القياسية. ولا نتجاهل النمو الفعلي الموجب (للدخل المحلي الإجمالي) برغم الأزمة و تأثيرات اللجوء السوري و تأثيرات (د.ا.ع.ش) على دول الجوار، سوريا والعراق.
أخطر ما في هذه الأرقام، هو حجم ونسبة الدين العام، حيث يثار الجدل حول صحة فكرة أن الدين الداخلي بالدينار الأردني لا يعد مصدر قلق، مقارنة بالدين الخارجي بالدولار الأمريكي. الأخطر من بين ذلك كله، والذي يعزز مؤشر الدين العام، هو العجز المزمن للموازنة العامة، والتي تدفع باتجاه مزيد من الاستدانة لسد العجز، ولمزيد من التبعات الضريبية على المواطنين لاحقا.
ما هي سيناريوهات الحل؟
ينطلق الحل دوما من الحقائق، وأكثر حقيقة مؤرقة هي تلك المتعلقة بحجم السوق (عدد المستهلكين والقوة الشرائية لهم) وقد يكون هذا المعيار من أبرز جاذبات الاستثمار من وجهة نظر رجل الأعمال الذي يقارن بين الخيارات الاستثمارية أمامه. والاستثمار الحقيقي هو المصدر الرئيس لخلق الوظائف بداية، ثم هو المصدر للعوائد الضريبية و تنمية النشاط الاقتصادي في أي بلد.
بكل شفافية، يجب العلم بأن جميع دول العالم تتنافس في جذب الاستثمار الأجنبي والمحلي، والجميع يمتلك من المزايا التنافسية ما يجعله في قائمة الدول الجاذبة بشكل نسبي للاستثمار. بدءا بتقديم إعفاءات ضريبية مغرية، فتجهيز بنى تحتية متقدمة، فتدريب القوى العاملة، فاتفاقيات تجارية تمنح المنتج المحلي تسهيلات التصدير، فإجراءات حمائية تعطي المنتج المحلي الأفضلية السعرية، وتقديم الطاقة بسعر تفضيلي، وتقديم الأرض بالمجان أو بأجر رمزي، و كثير من الحوافز الاستثمارية الأخرى والتي يصل بها الحد لتجاوز مبادئ حقوق العمال و حماية البيئة و حتى السلامة العمالية في بعض الأحيان، على أمل توطين الصناعة ومن ثم تطوير بيئتها لاحقا.
الأزمة الحقيقية في الأردن (وعلى المدى البعيد) تتعلق بقطاع الاقتصاد الحقيقي، الصناعة بالتحديد، بالإضافة لمعضلة الطاقة المستوردة من نفط وكهرباء، فما زالت بنية الدولة و إمكاناتها عاجزة عن استقطاب وتوطين واستقرار مؤشرات الاستثمار في قطاعات ذات تأثير تنموي ملحوظ، كصناعة السيارات و الإلكترونيات و الكهربائيات والتجهيزات الطبية و الأسلحة، و الأهم الانتقال من مرحلة (التعدين) إلى مرحلة تصنيع المشتقات الاستخراجية، ولعل هذه أحد أكبر عثرات الاقتصاد الأردني في مجال استخراج البوتاس والفوسفات.
على المدى القصير والمتوسط، لا بد من اتخاذ إجراءات ملموسة في مجال التحصيلات الضريبية، و خفض نسب التهرب الضريبي، والتي يتم نسبتها لممارسات الفساد والرشوة في بعض الأحيان وخاصة عندما يتعلق الأمر بالشركات الكبيرة المتنفذة. كما أن نسب وشرائح ضريبة الدخل والمبيعات لا تحقق عدالة ضريبية بين المكلفين، فضريبة المبيعات ترحل العبء الضريبي بشكل أو بآخر على المستهلك النهائي (المواطن العادي)، وضريبة الدخل تفتقر للتصاعدية، الأمر الذي يحمل الطبقة الوسطى معظم الأعباء؛ ولا ننس بأن شريحة واسعة من أصحاب الأعمال الخاصة والحرة لا يمكن تعقب مداخيلهم بأي شكل كان، كما أن القطاع الزراعي و معظم عوائد السوق المالي أيضا معفاة من حسابات الضريبة.
في ذات الوقت الذي يجتهد الجميع بتحصيل الإيرادات فإن قلة ممن يناقشون قضية ضبط الإنفاق وترشيده. الحكومة بشقيها المركزية والمؤسسات المستقلة بحاجة لإعادة هيكلة تنسجم فيها النفقات مع الأهداف المحققة و مستوى الإنجاز، و يتعالى الحديث عن جدوى نسخ وتكرار العمل الحكومي مابين هيئات مستقلة و وزارة مركزية قادرة على القيام بنفس الوظيفة، والقول بقدرة ومرونة الهيئات المستقلة وتحررها من البيروقراطية لم يعد مبررا مقنعا للكثيرين، بمقدار ما تحولت الهيئات المستقلة لمؤسسات "تنفيع" وتمييز بين موظفي الدولة وعبء على بند النفقات.
مهما حاول البعض فصل الملف الاقتصادي عن الملف السياسي فإن واقع الحال والحقيقة تثبت عكس ذلك. فصاحب القرار الاقتصادي أولا وآخرا هو سياسي في السلطة. الإصلاح الاقتصادي في الأردن لن يخرج عن ملف الإصلاح السياسي، لا بل أنه بات واجبا تزامن المسارين في مثل هذه الظروف التاريخية. ولقد ثبت بالتجربة أن تأجيل الإصلاح بمساريه من شأنه مفاقمة التبعات و تصعيب حل الأمور فيما بعد.
التغيير له أعداؤه، و يواجه دوما مقاومة، نظرا للمصالح واسترطاب بعض النخب "الديناصورية" للوضع الراهن، و التخوف من إعادة هيكلة البنية العامة للدولة بما ينزع بعض الامتيازات و يسلب النفوذ من جهة وأخرى؛ لكن مصلحة الوطن الكلية ليس بالضرورة حاصل جمع مصالح بعض الأفراد والجهات، فالمصلحة الوطنية هي حاصل جمع منافع جميع الأطراف بأقل قدر من الضرر لأقل قدر منهم.
مازال الاقتصاد الأردني يحمل كثيرا من الفرص، كالاستثمار بالطاقة الشمسية، و تحسين مستوى وجودة التعليم و الارتقاء بخدمات الصحة العلاجية و تعظيم دور السياحة و تبني سياسات جادة جاذبة و موطنة للصناعات الثقيلة والتي تعتمد عليها الدول في نهضتها و تقدمها الاقتصادي الحقيقي المستدام.