إذا كان البعض يرى بأن الاقتصاد والسياسة هما وجهان لعملة واحدة، فإن واقع الأمر يؤكد أنهما أكثر تقاطعا من ذلك، وكلاهما وجوه للدولة. فالسياسة عبر أدواتها السيادية و ممارسات القوة القاهرة بالقانون تعمل دوما على تدعيم مؤشرات الاستقرار والنمو والتنمية الاقتصادية، حيث أن الدولة القوية تتكئ على هيكل اقتصادي متين و متنام، وليس أوضح من ذلك دور الاقتصاد النشط في رفع نسب التشغيل "الوظائف" و تعزيز الإيرادات الضريبية و العوائد الأخرى، كما أنه يزيد من الكفاءة لاستخدامات رأس المال، ولا ننس بأنه المزود لجزء كبير من توريدات القطاع العام وحاجاته من السلع والخدمات، و لعل الحكومة في كثير من الحالات تعد "الزبون" الأكبر لكثير من مؤسسات القطاع الخاص. هذه التشابكية ما بين (الحكومة و ما يتبعها من مؤسسات عامة) مع (القطاع الخاص) تتجلى أيضا في حرص القطاع الخاص على فعالية الدولة واستقرارها، فالشركات معنية جدا بدور سلطات الدولة في ضبط الأمن، و استقرار التشريع، وعدالة القضاء، وحفظ الحقوق، و التحفيز الضريبي، والحمائية، والإعفاءات الموجهة، ومنها تستمد قانونية العمل و بيئة التنظيم.
هنالك جدل مزمن حول هل أن السلطة في خدمة الاقتصاد؟ أم أن الاقتصاد في خدمة السلطة؟. ولعل النموذج الأقرب للواقعية والممارسة هو أن كلا من السلطة السياسية والاقتصاد يعملان على ذات النهايات المتمثلة بالنمو و النجاح للدولة بشكل عام، ضمن آليات تضمن ذلك التوازن ما بين المصلحة الخاصة للشركات وأهدافها الربحية من جهة، والصالح العام الذي يمثل جملة مصالح الشعب من جهة أخرى، وذلك يتم عمليا عبر أكثر الأدوات ممارسة وهو القانون. والأصل بالبيئة التشريعة أن تضمن حقوق والتزامات جميع الأطراف دون تغول طرف على آخر، في إطار منطقي وموضوعي وأخلاقي و إنساني عام.
في النموذج الأكثر تطرفا لهيمنة الاقتصاد على السياسة، فإننا نجد قطاعا خاصا مزدهرا ويتمتع بمستويات عالية من الحماية والحصانة و الإعفاءات و الحمائية و الحوافز ، كل ذلك مقترن بتمتع الشركات بمزايا قانونية عظيمة تجعل له اليد الطولى في إدارة الدولة وتحديد سياساتها والتأثير على القرارات، و يلاحظ في مثل هذا النموذج تداخل ملحوظ ما بين رجال السلطة و رجال الأعمال، لدرجة هيمنة التجار ورجال الأعمال على معظم مقاعد البرلمانات و تبوئهم أهم المناصب في الحكومات، الأمر الذي يعكس تغول المال على السلطة، مدفوعا بالروافع المالية والإعلامية لرجال الأعمال و إمكانيات الهيمنة على المشهد في ظل ضعف التنظيمات الاجتماعية و السياسية التي يؤمل منها تحقيق حالة التوازن ومنح عامة الشعب فرصة التمثيل و إيصال الصوت عبر التشكيلات الاجتماعية المتنوعة في الدولة الحديثة.
في المقابل من ذلك، فإننا نجد نماذج أخرى من تغول السلطة على المشهد العام، فتكون الرؤية منحصرة في ممارسة الحكومة لأدواتها السيادية بمعزل عن مفهوم الصالح العام للدولة ككل، وبذلك يتم إعاقة قطاع الأعمال و بناء أطر تشريعية تحد من تدفق الاستثمارات وتتدخل في توجيهها، و يفرض من الرسوم والضرائب ما يؤثر سلبا على القدرات التنافسية والتكاليف الإنتاجية. السئ في هذا الأمر أن الحكومة قد تكون عاجزة عن تلبية الحاجات العامة من السلع والخدمات كدور اقتصادي إنتاجي لها، و بذات الوقت تعيق قطاع الأعمال من القيام بذلك الدور أيضا.
بين هذا النموذج وذاك فإن المصلحة العامة للدولة بجميع مكوناتها تكون على المحك، فالوعي الكامل بطبيعة ميول كل جهة من شأنه توضيح المشهد، القطاع الخاص ربحي بطبيعة تكوينه وأهدافه، وهو في أعماقه غير معني بكثير من الجوانب الحساسة لو ترك له الخيار، فهو ليس معني برفع التكاليف الإنتاجية وبالتالي التأثير على التنافسية والقدرة على التسعير، وبعض القضايا مثل الحفاظ على البيئة من التلوث (Green-Ecology) و المسؤولية الاجتماعية، وحقوق العمال، والأمن والسلامة والاستدامة للموارد الناضبة ...الخ. جميعها قضايا تمثل تكلفة على المؤسسات، لن تقدم طوعا على دفعها بدون إجبار القوانين والأنظمة لها على ذلك. وربما يصل الأمر بأن تكون الميزة التنافسية متأتية من مدى قدرة الشركات على التهرب الضريبي والتملص من تكلفة وأعباء الانصياع للوائح العامة المنظمة للقضايا آنفة الذكر، وليس أوضح من تملص الولايات المتحدة الأمريكية من تبعات اتفاقية (Kyoto) للبيئة، و كذلك تملص الصين الشعبية من تبعات الملكية الفكرية وحقوق النشر و التلاعب بسعر صرف عملتها "اليوان" أمام الدولار الأمريكي.
الليبراليون الجدد والذين يمثلون الرغبة الجامحة لرجال المال والأعمال في الاستثمار والسيطرة والتوسع، غير معنيون بمستقبل العالم وأمنه واستدامة موارده بمقدار اهتمامهم بتسويق (الرأسمالية مدمجة مع نظام ديمقراطي تابع لها) كنموذج مثالي للحياة، وها هو (Milton Friedman) و مقررات مؤتمر ( Bretton Woods) يؤكدان على أن مفهوم النظام العالمي الجديد هو الأكثر خدمة للغرب الرأسمالي الحر والذي يرضي ذلك النهم الراسخ في عقلية رجال الأعمال نحو تعظيم الثروة بحيث تصبح السلطة السياسة "خادم" للقضية الاقتصادية.
لقد مر العالم الحديث بتجربتين رئيستين كان كلا منهما أكثر سوءا من الآخر، فالنظام الشيوعي في الاتحاد السوفييتي جعل السلطة والحزب في الطليعة، وسخر جميع الأنظمة الفرعية للدولة في خدمة القضية السياسية، فاستشرى الفساد والتسلط وتراجعت كفاءة النظام الاقتصادي وتردت نوعية القرار الاقتصادي حتى آل للانهيار في مشارف التسعينات.
في الجانب الآخر، تقبع الولايات المتحدة الأمريكية كأكبر نموذج للرأسمالية، فآليات السوق الحر هي المحرك الأساس للموارد وصنع القرار، و الاعتماد قائم على آليات التصحيح الذاتي لنظام السوق والعرض والطلب، و رجال الأعمال يحكمون اليوم أميركا و ينوب عن شركاتهم وكلاء معلنون في الكونغرس بشكل يمثل تبعية السلطة للاقتصاد.
وبرغم ذلك المستوى من التمكين لرجال الأعمال، فإن مشاكل التذبذب و معضلتي الركود والتضخم تبقى حقائق تعجز عقلية الليبراليبن عن حلها، وليس أصدق من كارثة الرهن العقاري منذ 2007 وما جرته من تداعيات في أميركا و بقية العالم، لدرجة أن كلية فكرة السوق الحر باتت على المحك.
الدولة المتوازنة والأكثر عقلانية ليست هي تلك التي تطلق يد رجل الأعمال ولا تلك التي تطلق يد رجل السلطة في شؤون الدولة و قراراتها السيادية العامة. فما بين نظريتي (السوق الحر و التخطيط المركزي) تقع نظرية ثالثة أكثر إنسانية و أخلاقا، تلك النظرية القائلة بأن ثمة حالة من التوازن والثنائية قابلة للتطبيق، حيث يقدم القطاع العام ما يمثل ذلك المستوى من الخدمات العامة "المرضي" لتلك الشريحة الواسعة من عامة الشعب، كخدمات الصحة والتعليم و المشاريع العامة بشكل يحفظ كرامة الإنسان ويقدم له حد مقنع من الخدمة بغض النظر عن قدرته الشرائية. في الجانب الآخر يترك المجال لقطاع الأعمال (الشركات) في تقديم ما يرغب من سلع و خدمات بصيغة تنافسية حرة و شفافة ضمن ضوابط صريحة تؤكد على قيم العدالة الضريبية والإفصاح و السلامة العامة والأمن لجميع أصحاب المصالح و الحفاظ على البيئة واستدامة الموارد وحقوق الإنسان وعدالة الأجور وغيرها من تفاصيل إنسانية وأخلاقية عالمية سامية.