ثمّة اغراءات كثيرة للإحالة إلى زمن ما بين الحربين العالميتين في عالمنا اليوم. فالتخبّط الذي تعيشه فكرة الديمقراطية التمثيلية في عالم اليوم يتخطّى بأشواط كل ما عاشته هذه الفكرة من أزمات تطور وأزمات توسّع في العقود الماضية، وهي أزمة كونية بامتياز رغم الإختلاف الكبير في أنماط حضورها من مجتمع إلى آخر.
تواجه الديمقراطية التمثيلية اليوم من على يسارها ويمينها. تواجه، من على يمينها، بفكرة أن إعطاء التفويض الشعبي، من خلال صناديق الإقتراع، لشخص أو لنخبة أكثر قدرة على التفاعل المباشر مع الشعب وتجسيد إرادته، هو أفضل من هدر الإرادة الشعبية في دوامة الفصل بين السلطات، أو أقلّه هو «تقويم» للخلل، أو للتردّد في صنع القرار أو للتلكؤ في تحمّل المسؤوليات الذي يتسبب به الفصل بين سلطات تحدّ الواحدة منها الأخرى.
وتواجه من على يسارها، بمحاولات معاودة البحث عن ديموقراطية مباشرة لا وكالة فيها لمنتخب من قبل ناخب، تقف نداً للديموقراطية التمثيلية القائمة على الوكالة المؤقتة من طرف الناخبين للمنتخبين. يستعيد أهل الديمقراطية المباشرة، أو «التشاركية»، بعضاً من انتظارات وابتهالات ثوار القرن الماضي، بصدد «سلطة المجالس»، وصولاً إلى اقتراح الفيلسوف الفرنسي جاك رانسيير العودة إلى مفهوم القرعة، الذي كان غالباً على الديمقراطية الأثينية قديماً، وبالتالي اختيار جزء من المجالس، محلية أو تشريعية، بالقرعة، من بين عموم المواطنين.
تواجه الديمقراطية التمثيلية من على يسارها ويمينها اليوم، في وقت واحد، وكثيراً ما تختلط مواجهة من على يسارها، بمواجهتها من على يمينها، أو «ينقل الطرفان» عن بعضهما البعض، كمثل اشتراك مرشح اليمين القومي الفرنسية مارين لوبان مع مرشحي اليسار في المطالبة بزيادة الاستفتاءات وتسهيل آلياتها. وهذا من جملة ما ينتقده الباحث آلان غاريغو الذي يعتبر أنّه قد تكون المشكلة في الديمقراطية الفرنسية هي كثرة الإنتخابات والإستفتاءات، (انتخاب بمعدل كل سنة، بين رئاسيات وتشريعيات وبلديات واقليميات وأوروبيات، هذا غير الاستفتاءات)، وأنّه بقدر ما يتزايد عدد الإحتكام إلى الصناديق بقدر ما يتزايد العزوف عن الإقتراع من قبل الناخبين، وأنّ تصنيم «الإنتخاب» ورفعه إلى منزلة أرفع فوق الفصل بين السلطات، والعدالة القضائية، من شأنه أن يحوّل القوى السياسية إلى «متعهّدة انتخابات»، ومن شأنه أن يغلّب منطق الترويج والتواصل على اجتراح السياسات. ليست الإنتخابات، ولا حتى نزاهتها بحد ذاتها، هي ما يميّز ديمقراطية حقيقية عن ديمقراطية مبتورة عند غاريغو، بل الإعتدال في الإنتخاب، بعدم جعله مبدأ أسمى مرفوعاً فوق منطق دولة الحق، وتداول السلطة، وبالأخص إستقلالية السلطة القضائية، وفوق حقوق الإنسان وحرية التعبير.
انكماشة التوسّع الديمقراطي على الصعيد العالمي منذ مطلع الألفية، وتردّي الأوضاع في أكثر من مجتمع أعتبر قبل ذلك في طور الإنتقال إلى الديمقراطية نحو أوضاع أقل ما يقال حولها أنّها تسلّطية وقمعية، لا يبرّر مع ذلك التعامل مع زمننا الراهن كما لو أننا نعيش فعلاً فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، التي أتسمت بصعود الحركات الفاشية والشمولية. فقد يكون مفهوم «الانتر رغنوم» أي «فترة خلو العرش» الذي طوّره انطونيو غرامشي مفتاحياً للمقارنة بين تلك الحقبة وعالمنا اليوم، من حيث أنّها فترة يكون قد انتهى فيها القديم ولم يظهر فيه الجديد بعد، لكن اسقاط أجواء فترة ما بين الحربين العالميتين، فترة صعود الفاشية، على عالمنا، بدءاً من ملاحقة التطورات الإنتخابية والاستفتائية في الغرب، هو اسقاط ليس فقط في غير محلّه، بل يعيق أسباب الرؤية، ويوتّر الأعصاب في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى شيء من الروية والسكينة لكي نرى بوضوح الحيويات التي تعتمل في المجتمعات المشغولة بفكرة الديمقراطية ومآلاتها.
فإذا استسهل قسم من الفرنسيين التعبئة الانتخابية ضد «الجبهة الوطنية» اليمينية القصوية، بإعتبارها حركة فاشيستية، وإذا استسهل قسم آخر من الفرنسيين، بمن فيهم أنصار هذه الجبهة، وصف الحركات الإسلامية، جهادية كانت أو غير جهادية، بأنّها «فاشية إسلامية»، فالأفضل التروي قليلاً، بل كثيراً، قبل اعادة استخدام مصطلح الفاشية ـ هذا إذا تغافلنا عن عشوائية استخدامه والتراشق به داخلياً، في كل واحدة من البلدان العربية، وفي أحيان كثيرة كما لو أنّه يرادف «الشيطانية» لا أكثر ولا أقل.
يزداد استخدام المصطلح عربياً، بقدر ما نكصت المكتبة العربية عن ترجمة معظم الأعمال التي أسست لمذاهب دراسية مخلفة. فإذا افترضنا قارئاً يعتمد على اللغة العربية بشكل أساسيّ، فهو لن يجد في المكتبة العربية ما ترجم حول الفاشية إلا نصوص من التراث الماركسي لفترة ما بين الحربين العالميتين (نصوص ديميتروف وغرامشي وتولياتي وتروتسكي) أو الفصول التي تناولت فيها حنة أرنت الفاشية في «أصول التوتاليتارية». ولا يكاد قد نقل إلى العربية شيء من نقد فرنسوا فورييه لتراث «معاداة الفاشية» عند الماركسيين، ودوره في معاداة الديمقراطية. ولا شيء من الدراسات التاريخية والسياسية التي وضعت مقاربة أرنت للفاشية في ميزان المتابعة أو النقد.
ميّزت حنّة أرنت بين حركة ذات توجه توتاليتاري، وبين نظام توتاليتاري بالفعل يهندس مجتمعه على نحو شمولي، وأعتبرت أنّ المانيا لم تتحول إلى نظام توتاليتاري تماماً الا مع الحرب العالمية الثانية، في حين «حرمت» أرنت النظام الذي أقامه موسيوليني في من رتبة «التوتاليتارية» هذه. ذهب بعض المؤرخين أبعد منها. فرنزو دي فيليشيه (توفي عام 1966)، يؤرخ للحركة الفاشية الإيطالية على أنّها بقيت ذات طبيعة تعددية داخلها، وأيمكن تمييز اتجاهين أساسيين فيها، أحدهما «يساروي» يحلم بالتنظيم النقابوي الكامل للمجتمع، واعلان الجمهورية وضرب الكنيسة، وعنده مشكلة عميقة مع مفهوم الدولة، وثان «تطبيعي» يريد لجم الميليشيات الحزبية، ويعطي الأولوية للدولة على الحزب، ويهتمّ باعطاء الحركة الفاشية اطاراً دستورياً ما أمكن.
تعاملت أعمال دي فيليشيه مع بنيتو موسيوليني كحركة وصل وترجيح متأرجحة بين هذين الإتجاهين، إلى الوقت الذي مال فيه «الدوتشيه» إلى الجناح المتشدّد أكثر نهاية الثلاثينيات، أي بعد عقدين في السلطة، مع أنّه ميل سيطاح به من داخل الحركة الفاشية التي انقلب «يمينها» على موسيوليني في تموز 1943، بشكل قارنه دي فيليشيه بمآل روبسبيير، سوى أنه كتب لروبسبيير الفاشية حياة جديدة مع تحرير الكومندوس الألماني له من الأسر، وترئيسه على «الجمهورية الإجتماعية» في الشمال الإيطالي، التي أبتغت العودة إلى البدايات الفوارة والثورية للحركة.
أعمال رنزو دي فيليتشه طوّرت إذاً ما بدأته أرنت، اذ اعتبر أنّ الفاشية ـ الحركة ظلت تعيش حياة غربة عن الفاشية ـ النظام، وأن بعضاً من الفاشية ـ النظام ظلّ يتعامل مع الفاشية نفسها على أنّها شيء مؤقت، وبعده تعود الدولة الدستورية إلى حالة «طبيعية أكثر». وفي مقابل أعمال دي فيليتشه، تطوّرت مدرسة مناقضة تماماً له ولأرنت، تميل إلى اعتبار النظام الفاشي الإيطالي أكثر نسقية وتصميماً على هندسة شمولية وعدوانية للمجتمع، بشكل تراكمي متواصل، ومنها مثلاً أعمال المؤرخ ايميليو جنتيليه.
فأين دو فيليتشي وأين جنتيلي من المكتبة العربية، طالما يحب الكتاب والصحافيون العرب الاسترسال حول «الفاشية» من دون الإحالة على عقود من الدراسة والبحث والتأليف والجدال حول أصلها وفصلها؟
وهل ثمّة أثر في العربية أساساً، وفي البال فرنسا، لكل الأخذ والردّ بين المؤرخين، حول مكانة مفكرين فرنسيين، مصنفين يساراً متطرفاً، كجورج سوريل، أو يميناً متطرفاً، كشارل موراس، في التأسيس للفاشية، وحول منسوب الفاشية من عدمه في تجربة «الدولة الفرنسية» التي أقامها الماريشال فيليب بيتان في سني الحرب؟
هل يمكن تجاوز كل هذه المكتبة الغربية المتخصصة في موضوع الفاشية، واستخدام المصطلح في الوقت نفسه، بشكل سجالي أو عشوائي، سواء للتراشق الداخلي في كل بلد عربي، أو للتعليق على رواج الشعبويات في الغرب اليوم؟ أزمة الديمقراطيات التمثيلية اليوم عميقة، وهناك بلا شك عناصر مقارنة جدية بين الشعبيات اليوم والحركات الفاشية فيما مضى، الا أنّ الافراط في تحويل عناصر الشبه هذه إلى عناصر تماثل مكتملة، هو خطأ نظري قدر ما هو خطأ سياسي.
فبعد كل شيء، أكبر تردّي لديمقراطية تمثيلية في بلدان الاتحاد الأوروبي اليوم، لا تمثله مارين لوبان، الآتية من بيت يميني متطرف، إنما تمثله حالة رئيس الوزراء المجري فيكتور اوربان، فهذا النائب السابق لرئيس الدولية الليبرالية مطلع التسعينيات، يؤسس لتجربة تسلطية، يسميها «الديمقراطية غير الليبرالية»، ضرباً للإعلام المستقل في بلاده، واخلالا بالفصل بين السلطات، واضعافاً للمحكمة الدستورية، وتضييقاً على الأقليات، وتسييجاً للحدود بوجه المهاجرين، وحالته امتدت إلى بولونيا وبلدان الشرق الأوروبي الأخرى.
٭ كاتب لبناني