تتباين نظريات نشوء الأمة (الدولة) مابين الرغبة المشتركة في العيش للجماعة الإنسانية على رقعة الأرض، إلى حق تقرير المصير للشعوب ورغبتها في الاتحاد أو الانفصال. ما بين هذا وذاك تمر علينا مئوية (سايكس-بيكو) وقد استكملت عمليات تفتيت الأمة أضعاف ما كانت النية معقودة عليه وقت إقرار تلك الاتفاقية بين الدول الاستعمارية آنذاك.
الحقيقة الأكثر جلاء هي أن ثمة قومية كردية يجمعها من السمات والتمايز وعوامل التكوين الكثير، وأنه لسبب أو لآخر فقد أغفلت اتفاقية سايكس-بيكو رسم حدود تلك القومية لتمنح هوية وحدودا مستقلة تجعلها بغنى عن ذلك التاريخ من القتال من أجل ذلك الكيان الحلم، كردستان.
الأكراد بهويتهم المتمايزة ليسوا إلا جزءا من هوية الأمة الجامعة، فهم بالأغلب مسلمون، سنة، عرب الأحرف، وثقافتهم عربية إسلامية بحكم التفاعل والاتصال التاريخي والحضاري بالمحيط.
إن المستعرض لحركة الاستقلال والنضال الكردي للمئة عام المنصرمة ومنذ انتهاء الخلافة العثمانية، ليدرك بعمق بأن الأكراد وفي رباعية تواجدهم (العراق-سوريا-تركيا-إيران) ما انفكوا يوما عن المطالبة بالانفصال والاستقلال بكيانهم المأمول، وأنهم جادون وطويلي الأمد وبراغماتيون ولن يحيدوا عن مطالبهم مهما فرضت عليهم الظروف والمتغيرات من شروط أو توقيفات.
الأكراد ونظرا للمرحلة المأساوية التي يمر بها العراق، على عتبة الانفصال التام والدستوري عنه، لا بل يطمعون بضم مساحات أوسع للإقليم ليشمل كركوك وبعض البلدات المتنازع على هويتها كذلك في الموصل. أما في سوريا ونظرا لتشابه سيناريو (تنظيم الدولة الإسلامية) وهزيمته على يد البشمركة والقوات الكردية، فإنه أصبح من حكم الواقع المطالبة بأحقية الأكراد بحيازة أرضهم المحررة وضمها لإقليم (كردستان-سوريا الجديد) والذي هو في إطار التفاهمات قد يكون النظير لإقليم كردستان-العراق، خاصة إذا ما وجد الدعم الكاف من إسرائيل وأميركا والأوروبيين، وقبول من روسيا وتركيا وإيران.
في الوقت الذي يتحقق به الحلم الكردي في سوريا والعراق بحكم المرحلة التي يمر بها البلدين والتي هي آخذة إلى مزيد من التفكك والضعف، فإن المشروع يتوقف وبقوة على أطراف تركيا وإيران، فالدولتين تبدوان صامدتان و متحدتان وقادرتان على كبح كل جهود القوى الكردية في التقدم على الأرض، وإذا كان هنالك عائق حقيقي أمام إكمال كرستان الحلم، فهو عقبة أنقرة وطهران بحكم الوضع الراهن وميزان القوى، ولربما يختلف قادة الدولتين على أي شئ إلا على موقفهم المشترك من استقلال الكرد في كيانات محلية بشكل أو بآخر.
إن سيناريوهات التشظي والبلقنة ليست حكرا على الطموحات الكردية فحسب، فقد انفصل السودان عن مصر، وانفصل جنوب السودان عن السودان، وانفصلت الضفة الغربية عن الأردن، وربما تنفصل الصحراء الغربية عن المغرب، وقد ينقسم اليمن لثلاثة دويلات، وواضح ما يتم من بلقنة العراق وسوريا على غرار بلقنة لبنان كأنموذج صارخ للتشظي في الوطن العربي.
حركية التاريخ تقتضي أن الأمم في مسيرة ما بين الانحسار والتمدد، وكثير من الأمم المستقرة و الناجحة تلجأ لنموذج الفيدرالية أو الكونفيدرالية كشكل اتحادي مرن يعالج الرغبة المحلية بالتمايز والخصوصية، هذا مع احترام مبدأ حق تقرير المصير للشعوب بناء على ما يقرره صندوق الاقتراع، لأن البديل عن ذلك هو حروب لا تنتهي وكوارث إنسانية الجميع في غنى عنها.
إن أكثر ما في الأمر من ألم يخالج صدر كل إنسان عربي، أن صلاح الدين الأيوبي الكردي هو من قاد الجيوش وجاهد السنين في سبيل وحدة الأمة وكرامتها ودفع الفرنجة الطامعين في مقدساتها، في الوقت الذي يستثمر فيه زعامات الكرد اليوم الظروف المأساوية لإخوتهم العرب في سبيل فرض الأمر الواقع، والأكثر إيلاما بأن اليد باتت تمتد للأيادي المظلمة طلبا للعون وحشد التأييد الدولي.
للأمانة والموضوعية، فإن كل ما يجري، ما هو إلا حصاد عقود من سوء إدارة الملفات الداخلية والإقليمية للنظام العربي، وعقود من الغطرسة والتسلط والظلم والتهميش وتغليب لغة القوة على الحوار والتفاهم، عقود مظلمة قتلت كل أمل في بناء نموذج عربي اتحادي قائم على مبادئ الحرية والكرامة والإنسانية والعدالة والمساواة والشفافية والمشاركة. ربما ساهمنا جميعا في تشكيل ذلك وقد نكون جميعا ملومين عليه. لكن ما يخيف أكثر هو ذلك الإحساس العميق لدى النخب العربية بأن الفرصة قد ذهبت بلا عودة، وأن القادم لن يكون إلا على حساب الإنسان العربي، ذلك الحلقة الأضعف في معادلة قوى المنطقة بأسرها.