"... وسوف يبدو المرء اكثر واقعية إذا ترك الشيطان جانباً، وقال بهدوء إن الصدام يحدث في الواقع، نتيجة عجز الفلسفة السياسية عن ايجاد الحل الفاصل بين الحرية والفوضى"
(صادق النيهوم)
عفواً عن التخلف اسبوعاً كاملاً عن "يوم المرأة العالمي". كنت مأخوذاً، والحق يقال، بمتابعة أوضاع نجمة المرحلة، الآنسة ميريام كلينك، وكليبها، وغولها. ومن المتابعة المضنية تصريح شريكها، السيد جاد خليفة، أمام العدلية، للشعب اللبناني العظيم، إذ اوضح أن ظهور طفلة في كليب الغول مجرد مصادفة: "كانت مارة من هناك، فطلعت في الصورة".
دعوني اعترف لكم، أن الذي يستأهل مثل هذا الفن، يستأهل مثل هذا الاستحمار. ادرك السيد خليفة أنه سوف يقف أمام التلفزيون ويقول لمئات آلاف المشاهدين، إن الطفلة كانت مارة من الاستوديو، بثوب يحاكي أثواب الآنسة المذكورة، فكان أن أُشركت في كليب الغول والغوليّة، وأن أحداً لن يعترض على الرواية. بالعكس، سوف تهرع الصحافة إلى حورية الزمان، تتوسلها تصريحاً، أو تلميحاً، عن أوضاعها وعن وضعنا. أما الأكثر بلاغة فكانت أم الطفلة التي قالت إن هذه لم تكن المرة الأولى تشارك ابنتها في كليب، إلى جانب "ديفا" لبنان الحديث.
لم يُهِن أحد، أو بلد، "يوم المرأة العالمي"، كما أهين في ربوعنا. ليس بسبب غول ميريام كلينك، فهذا مجرد وضع من أوضاع "العارضة" ورسالتها في أن تعرض ما تشاء. المأساة في الطريقة اللاواعية التي عالجنا بها "القضية". فقد هالنا ما وصل إليه مستوى الأغنية. أما الحقيقة، فالمسألة هي مستوانا جميعاً. لقد كشف الغول هول الانحدار، وذكَّرنا بقول فؤاد الترك، حتى قبل بلوغ هذا القعر: ليس تحت تحتنا تحتٌ.
في يوم المرأة قدَّم السودان، عوضية كوكو. بائعة شاي في الخرطوم لثلاثين عاماً، انشأت اتحاداً نسائياً للعاملات في المهن الهامشية ضم 8 آلاف امرأة. وفي السعودية، اصبحت سارة السحيمي رئيسة البورصة. وهنا في باريس كان الخوف يتزايد من ان تنتخب لوبن للأليزيه، فتكون في ذلك نهاية الجمهورية الخامسة، وربما كانت نهاية اوروبا كما نعرفها. فمن بعد فرنسا سوف تذهب المانيا الى الانتخابات، وقد تكون عرية الهوس واحدة. وكما هناك امرأة تغير مجرى التاريخ مثل مارغريت تاتشر، أو انديرا غاندي، أو امرأة تصنع تاريخاً يحمل اسمها مثل الملكة فيكتوريا أو كاترين الروسيا، تكون هناك امرأة مثل السيدة لوبن، وريثة السيد لوبن.
فالمرأة ليست كائناً هزيلاً، أو خارجياً، توضع له "كوتا"، باعتبارها حسنة من الرجل صاحب المكارم. وهي لم تثبت جدارتها لأنها وصلت إلى الحكم، بل اثبتت تفوقها يوم وصلت إلى رئاسة IBM، ويوم نالت البولونية ماري كوري نوبل الفيزياء مرتين، ويوم انشأت الأم تيريزا أعظم المؤسسات الإنسانية للإنسان.
السياسة ليست ساحة الجدارات بين الفريقين، وإن تكن المرأة قد تفوقت فيها أيضاً. يُبحث عنها في الشجاعة التقويمية التي اظهرتها في معارضة بونابرت. في الحروب، التي داوت فيها الجروح والنفوس، المقهورين بظلم الرجال. ويبحث عنها أماً في كل بيت قبل أن نولي الأمومة للآسيويات، أو لاستوديو كلينك وغولها.
حتى الحماة لعبت دوراً وجودياً خلف ستائر التاريخ، بعيداً من الصورة الكاريكاتورية السطحية التي حولتها الى عدو منزلي. حماة فردينان دو ليسبس، صاحب قناة السويس، كانت الاساس في حياته، وفي تشجيعه على أحد أعظم مشاريع الجغرافيا التاريخية. وعندما توفيت المدام دو لامال، قال حموها إن المدام دو لامال انجزت الجزء الأهم من حياته وحياة ولديه قبل أن تغيب. دعونا من هذه اللعبة السقيمة: البحث عن الشخصيات التي اخترقت عالم الرجل. لم تكن تلك منَّة منه، فقد كانت بين المصطفين، كما قالت الآية. الله يصطفي، لا مخلوقه. وقد كانت المرأة شريكة للأنبياء في ما عملوا. وإذ نقرأ فصول الصلب في الانجيل، نرى الرجال ينكرون المسيح، أو يتفرجون على صلبه من بعيد، بينما حاملات اسم مريم يدفعن جنود المئة على الجلجلة ويذهبن إلى القبر.
هذا ليس مقالاً، ولا درساً في معاني اللاهوت. لا أحد يتقدم المطران سليم كيرللس في هذا الباب، علماً ودلالة على الروابط الروحية بين المسيحية والاسلام. ويوم تباطأ سيدنا وصديقنا جورج خضر في ذر "رسالة الغفران" من بعد المعرّي، خفنا على الذروات الفكرية في بلد فقد مقاييسه وذراه، لكن سليم كيرللس يحمل في قدرة وامانة، مشاعل التفسير النبيل، وإن كانت لغة جورج خضر هي جورج خضر.
هل تكفي المنائر القليلة لكل هذا العتم المحيق؟ المشكلة في ميريام كلينك، والطفلة في الاستوديو و"النص" المغنى، ليست في الآنسة المذكورة. فما مِن مفاجأة في الأمر. المشكلة في النظرة الجماعية الى قضايا الآداب العامة. ومأساة هذه النظرة تكمن في اعتبار مثل هذه الافعال، أشياء قابلة للنقاش، وحتى للدفاع، في وسائل الاعلام الكبرى. وقد حدث كليب كلينك فور الانتهاء من الاصغاء الى المبتز المعروف بلقب "البطة". فقد نقل هذا مفاخرات السفه من الهو
اتف الخاصة الى القنوات المفتوحة. ومن المخادع الى الصالونات. وبين لغته ونصوص كلينك، ارتسمت للبنان في العالم العربي، صورة مؤلمة لنهاية العصر الاعلامي الذهبي، الذي كانت معادلته ذهبية أيضاً: الحرية هي الابداع، وليست الفجور.
ما من أحد منا تسمح له طاقته العقلية بأن يطالب المبتز بوقف الابتزاز، أو الاستوديوهات بمنع مرور الاطفال. قضيتنا ليست مع هذه الظواهر، وإنما مع تعويد الناس ان مثل هذا الشطط هو أمر عادي، وأنه جزء من الحرية، وليس اعتداءً مقززاً على جمالياتها، بحيث يصادف "يوم المرأة العالمي" عندنا يوم دفاع الآنسة المذكورة عن مفهوم الجنس والحياة. فقد اكتشفنا أنها لا تعرض فقط الاوضاع الخارجية، بل الفلسفات الداخلية في وجه المعترضين على طريقة ممارستها لجماليات الحياة: الحرية والحب والغناء.
عندما كان كمال جنبلاط وزيراً للداخلية، أصدر قراراً بمنع نشر صور "الحوادث". أي القتلى والجرحى وما إلى ذلك. وقال المفكر الكبير، إن نشر الصور يعوِّد الناس ان الجريمة أمر عادي، فيما هي ليست إلا جريمة. هل لاحظتم نوعية الجرائم التي تُرتكب اليوم؟ كيف يقتل الزوج زوجته من أجل امرأة أخرى؟ كيف وبأي وحشية يقتل الحارس ابنة صاحب البيت؟ كيف يطعن صاحب الزنود القوية ضحيته في قلب الاشرفية في قلب النهار، طعناً حتى الموت، بعدما طارده من المطار؟ بماذا ردّت الدولة؟ عيّنت للقاتل طبيباً نفسياً. وغداً عندما يخرج، سوف يشرح قضيته في برنامج "اجتماعي" ناجح "الريتغنز" ومدرّ للإعلانات. بعد قرار كمال جنبلاط بنصف قرن، أصدر البرلمان الاوروبي قراراً برفع الحصانة عن مارين لوبن، لأنها نشرت على موقعها صوراً لعنف "داعش". لا يحق لأحد تبسيط الشر. والشر ليس القتل فقط. وعلى رغم انبهار الاعلام اللبناني بأنواع جديدة من الحريات، لا تزال بيوت كثيرة ترفض أن يدخلها مطلوبون للعدالة والذوق.
في "يوم المرأة العالمي"، وجدنا أنفسنا نغرق في طوفان ميريام كلينك. أُنسينا مي زيادة وفيروز وعلياء الصلح وروز اليوسف. وليت ذلك الطوفان حدث في موعد آخر، أو في بلد آخر. وربما وجب أن أوضح اكثر: لا يمكن مبتز زحلة، ولا الاستوديوهات الزهرية، ان يدخلوا حياتنا أو شؤوننا أو قضايانا. هم لهم عالمهم، ولهم جمهورهم، ولهم ما اختاروا من مستويات للعيش. نحن، قضيتنا الذوق العام، ومرتبة الحرية في الحياة، والفجور في تسخيف الشر والخطأ. لقد وضع البير كامو للكتابة قاعدة مقدسة: أن نكون في خدمة الحق والحرية. كلاهما لا يحتمل التزوير.
*نقلا عن "النهار"