قبل ربع قرن استقبل العالم كتاباً سياسياً كما لو أنه ينبهر أمام حدث سياسي تاريخي ومحوري. كان عنوانه "صدام الحضارات، وإعادة تكوين النظام العالمي" لصامويل هانتنغتون. أثار الكتاب نقاشاً كاد يشبه في حجمه النقاشات التي اثيرت حول كتب مثل"رأس المال" لماركس. وبين الذين اعربوا عن اعجابهم بالبحث المتعلق باوضاع العالم في القرن التالي، اشهر مستشارَين في تاريخ البيت الأبيض، هنري كيسنجر وزبيغنيو بريجنسكي، إضافة إلى مجموعة كبيرة مثلهما من أهل هارفرد، علماً وتعليماً.
جاءت مجزرة 11 ايلول بعد نحو عقد، فثارت الضجة حول الكتاب من جديد. ووضعه البعض في خانة التنبؤات، لا الدراسات. ورأى العالم بداية القرن الحالي، أي العام 2001، بداية التفجّر الكوني الكبير: فئة على فئة، وقوم على قوم، ومعسكر على آخر، إلاّ نحن، فقد رأينا في البحث مؤامرة أخرى علينا، واعتداء آخر على تراثنا، خصوصاً أن عنوان الكتاب، "صدام الحضارات"، مأخو ذ من محاضرة القاها داعية الصهيونية في القرن العشرين، برنارد لويس.
كان ردنا العام على ذلك البحث، مألوفاً، متوقعاً وروتينياً: اشتمه، وأذهب إلى النوم. ومنّا من نام قبل أن يشتمه، لأنه لا يحرز ولا يستحق. وفاتنا جميعاً سبب الكتاب. ومبعثه الأول ليس نواحي التصادم في حضارات متصادمة على الدوام، وإنما إلى ماذا سيؤدي انهيار الحضارة السوفياتية، وفشل الشيوعية كايديولوجيا ونظام حكم واقتصاد، وكيف ستسارع القوى إلى ملء هذا الفراغ الهائل، الذي اعتادته دورة الأرض سبعة عقود.
ماذا فعلنا نحن بعد السقوط السوفياتي؟ كان العراق الدولة العربية الوحيدة التي تحركت، فطلبت من سفرائها في أوروبا الشرقية وضع دراسة من عنوان واحد: هل يؤثر ذلك على النظام العربي؟ جواب مطول خلاصته كلمة واحدة، "لا".
كان الدكتور يوسف زعين قد اطلق في دمشق قبل ذلك بأعوام، قولاً مأثوراً في مأثورات التاريخ العربي: ليس المهم أن تبقى الدولة، بل أن يبقى النظام. وقد بقي النظام حقاً. وكان أول ما فعله أن نفى يوسف زعين إلى الجزائر إلى حين وفاته هناك. هانتنغتون درس المتغيرات على النظام العالمي، برمّته. أي على سلامة العالم وأمن الشعوب، وكيف سوف يكون دور الرأسمالية المتوحشة بعد سقوط القوميسار وفشله في ترجمة ماركس إلى نظام اشتراكي قابل للحياة.
فـ"النظام" السوفياتي أساء فهم ماركس عندما اعتبر أن الحرية ترف، لا ضرورة له. وقد أخذ هذه الفظاظة من القياصرة، وأبقى جميع وسائلها، من سيبيريا إلى الغولاغ. ولم تزدهر الاشتراكية وتستمر إلا في الدول العاملة بقانون الحريات وقيمه، مثل بريطانيا وفرنسا واسكندينافيا. والنظام السوفياتي لم يسقط في موسكو، بل في سيبيريا، وفنون التعذيب والقهر والقتل. ولذلك، كان أول من بدأ حفر حفرة الانهيار مدير المخابرات يوري اندروبوف، وليس خَلَفه ميخائيل غورباتشوف. هو الذي تمعَّن طويلاً في خريطة الحياة البشرية أمامه، وقال للرفاق في الكرملين، هذا الهيكل لم يعد يحتمل كل هذا الصدأ. عندما يحدث الناس عن غورباتشوف ينسون دوماً دور معلّمه، وننسى، نحن أيضاً، أن معه انتهت سياسة موسكو العربية والموقف الانساني، وليس فقط السياسي، من موضوع فلسطين.
انصرف هانتنغتون إلى قراءة آثار التشقق على بقية العالم. وجد أنه مكان موسكو المهزومة في أفغانستان، قامت قوة ليس قوامها الفكر الاسلامي العربي المؤسساتي، وإنما تفرعات آسيوية عنفية ذات مفاهيم ترفض العالم أجمع، بما فيه المؤسسة الاسلامية نفسها. ورأى انه بعد سقوط العالم الثنائي القطبين، سوف يقوم عالم ذو اقطاب كثيرة، كان قد تنبأ به هنري كيسينجر من قبله. ولا تشمل هذه الاقطاب دولاً كبرى كالصين والهند وأوروبا الموحدة فحسب، بل أيضاً مجموعة محتملة من الدول الصغيرة أيضاً.
ظل "صدام الحضارات" مصطلحاً ملطفاً عن واقع غير لطيف، إلى أن جاء دونالد ترامب. وبكل هجومية ولجاجة، ارغمنا على العودة إلى كتاب هانتنغتون: صراعه ليس فقط مع "الاسلام المتطرف"، بل مع الصين. وليس فقط مع الصين الكونفوشيوسية، بل مع المكسيك الكاثوليكية، مما ارعب البابا الارجنتيني، الذي تراءت له من جديد اسفار الرؤيا في القارتين وصراع الطوائف. ولم تنحصر توقعات هانتنغتون بالمواجهة الغربية - الاسلامية، بل توقع ايضاً (بالإذن من السيدة ليلى عبد اللطيف) تفجر الصراع الشيعي - السني. حدث واحد وتتصادم حضارات الأرض. أو رئيس واحد مثل دونالد ترامب، يرمي اللغة الديبلوماسية جانباً ويسمي الاشياء باسمائها المشتعلة، كما لو أنه في مقهى، وليس على رأس دولة.
لم يكن في توقعات هانتنغتون ظهور رئيس أميركي مثل ترامب. هذا كان في توقعات سنكلير لويس وكتابه الكلاسيكي "هذا لن يحدث هنا"، قصة زعيم متفلت في شيكاغو، يخوض معركة الرئاسة، ويربحها، على رغم كل التوقعات والتمنيات. أثار ترامب فضيحة في السياسة الاميركية، لكنه كشف عوراتنا جميعها: كل يوم نطالبه باحترام "القيم الاميركية" لأنه ليس لدينا قيم نعرضها للاحترام. وكل يوم نطالبه باحترام لاجئينا، وتقدير ظروفهم، واظهار الإنسانية حيالهم، لأننا نشردهم من دون أي اعتبار، وليست لدينا اية إنسانية نظهرها حيالهم. كل يوم نحرق علم "أمريكا" في شوارعنا، ثم نرسل إليها اللاجئين والمهاجرين بمئات الآلاف، وعندما تعاملهم في مطاراتها بخشونة نطلق عليها رشاشاً من الدروس. كأننا ننسى معاملة المسافرين في بعض مطاراتنا. كأننا لا نعرف اعداد اللاجئين العرب الذين رفضتهم، أو طردتهم، الدول العربية.
قال هانتنغتون العام 1983 إن نهضة كبرى تكتسح آسيا. إلا الجزء العربي من القارة. لا نزال هنا نتباهى بعصر النهضة الذي مرَّ بنا أوائل القرن الماضي. أما أوائل هذا القرن، فالظاهرة الآكثر حضوراً كانت "داعش". والنهضة، أو التقدم، لا يعني اطلاقا تبني الحضارة الغربية. بالعكس. أحيت آسيا حضاراتها القديمة. وإذ يعامل ترامب المكسيك على أنها دولة لاجئين اقتصاديين وزعران، ينسى أنها أهم مواقع الحضارات القديمة.
ولكن ما هو نفع الحضارات المائتة، كما يقول الدكتور علي الوردي، صاحب "وعاظ السلاطين"؟ لا فائدة (الوردي) في الأمم التي تقوم على استرضاء المستبد، لأن الاسترضاء يغلق باقي ابواب ونوافذ الاصلاح. وعندما رأت الصين أن النموذج السوفياتي قد اخفق، انصرفت سريعاً إلى النموذج الاقتصادي الغربي، كما فعلت اليابان من قبل. لكن العملاقين الآسيويين لم يغيِّرا في المشارب الحضارية وهوية البلاد. رأى ماكس ويبر ان سبب تخلف الصين هو الكونفوشية. لكن النخب الصينية ترى فيها اليوم السبب الأهم في تطور الصين.
نظرة ترامب الفجة والاستعلائية إلى الحضارات والطوائف غير الانغلوساكسونية، يجب أن تكون حافزاً على اعادة النظر في حقائقنا. اصغيت إلى متحدث عربي الى الـ"بي. بي. سي" من استوكهولم يقول:"عليهم أن. ويجب أن. ولا بد من. وينبغي". وكل هذه الفروض يتوقعها من أسوج في شأن زواج القاصرات. اي أن على الدولة المضيفة أن تغير قوانين شعبها، وليس على الضيوف أن يتكيفوا مع بلد اللجوء. ومن جملة التكيفات أن يتقبل المجتمع ذبح شقيق لشقيقته على باب المنزل، غسلاً للعار. في حين أن القانون الذي يمنع زواج البنت قبل الثامنة عشرة، يسمح لها بالمعاشرة، أو المساكنة، منذ الرابعة عشرة. اللهم إلا إذا كان القانون قد عُدّل أيضاً.
هناك فروقات هائلة في الحضارات، ولكن لا شيء يفرض عليها الصدام. ما نراه في المواقف الشعبوية الالغائية الغربية، أو في الهمجيات الشرقية الدموية، هو صراع التوحش، وليس الحضارة. ولا التمدن. نحن – يقول علي الوردي – نقلنا القبلية ونزاعاتها وأنانياتها الرافضة للآخر، أو الخائفة منه، إلى الدولة المدنية. وهذه لا دولة ولا مدنية. ومع شروع ترامب في توقيع "الاوامر التنفيذية". أفضل ما نقرأ هو صامويل هانتنغتون. وشركاه.
نقلا عن "النهار"