ما دعاني للكتابة حول ملف التسوية السورية ما بعد أستانة وما قبل مؤتمر جنيف أمران رئيسيان، الأول هو بروزه على الساحة الإعلامية بشكل غير مسبوق، والثاني وهو الأهم دوره في تحقيق الأمن والاستقرار في سورية والمنطقة بأكملها، إذ تبدو سورية اليوم وكأنها في طور إعادة ترتيب أوراقها وإستعادة المبادرة من جديد، على أساس ثوابت ليست قابلة للمساومة، ويمكن تلخيصها أن محاربة الإرهاب ووحدة سورية خط أحمر، فالمتتبع لتطورات الأحداث الحالية التي تتفاعل على الساحة السورية يدرك جيداً بتصاعد وتيرة الجهود التي تبذلها قوى إقليمية ودولية عديدة لتعزيز الحل السياسي وإنهاء الصراع الدائر في سورية منذ أكثر من 6 سنوات.
كانت نتائج محادثات الأستانة بين ممثلي الحكومة السورية وفصائل المعارضة المسلحة التي رعتها روسيا وتركيا وإيران ايجابية بالنسبة لجميع الأطراف المشاركة كونها نجحت في تحقيق هدف تثبيت وقف الأعمال القتالية لفترة محددة الأمر الذي يمهد للحوار وإستئناف العمل بين السوريين، إذ ستعاود الأطراف المتحاورة الإجتماع مرة أخرى في جنيف وستتابع التحاور بهدف الوصول إلى خارطة طريق يسير عليها طرفا الحوار السوري بهدف الوصول إلى صيغة سياسية ترضي كل السوريين، بمعنى أن محادثات الاستانة ليست النهاية وإنما لبنة يمكن البناء عليها لمفاوضات جنيف القادمة بعد تثبيت وقف إطلاق النار في مختلف المناطق السورية.
وبحسب البيان الختامي للمحادثات، تعهدت كل من "روسيا وإيران وتركيا" بمحاربة داعش وجبهة النصرة وفصلهما عن باقي الفصائل الأخرى، كما تم الإعلان عن انطلاق جولة جديدة من "المفاوضات السورية السورية" إنطلافاً من منصة أستانة تتضمن قضايا أمنية في جنيف، في هذا الإطار إن فصل أو تحييد بعض القوى المعارضة المسلحة وخروجها مؤقتا من ساحات القتال سيمنح الجيش السوري فرصة لتقليص جبهاته و حصرها في مواقع تواجد داعش و جبهة النصرة والقوى المتطرفة الأخرى فضلاً عن الشرخ الذي حصل بين هذه القوى و معارك التصفيات التي تحدث الآن في إدلب وغيرها من المناطق السورية أكبر دليل على ذلك.
المصالحة والتطبيع التركي - الروسي أدّيا إلى تفاهمات واتفاقات ثنائية وإقليمية كثيرة، بعضها أعلن عنه وبعضها الآخر لا يزال غيرَ معروف بالنسبة إلى كثيرين، ومما لا شك في أن التنسيق الروسي- التركي قد عرّض التوازنات الإقليمية القائمة للاهتزاز، فمعظم الدول الغربية خاصة أمريكا وبريطانيا وفرنسا، تراقب بقلق التقارب بين موسكو وأنقرة، لما يمكن أن يحدثه ذلك من تأثيرات على التوازنات الدولية، كما يعتبر المراقبون أن زيارات العاهل الأردني المتكررة إلى روسيا غداة انتهاء محادثات أستانة تأتي من ضمن استراتيجية تموضع اتخذتها عمان داخل المشهد الدولي العام، لتتعرف المملكة على التوجهات الروسية المقبلة في سورية، ودورها في سياق ما يخطّط له، خصوصا أن للأردن نفوذا مباشرا متعلقا بالحدود الجنوبية للمملكة، في هذا السياق لعل عبارة حل سياسي في سورية أصبحت قاسماً مشتركاً في كل المحافل الدبلوماسية، برغم التناقض في الرؤية بشأن الأزمة.
في هذا السياق يعتبر مؤتمر جنيف القادم واحد من أبرز المحاور السياسية المهمة، وبارقة أمل كبيرة في الخروج من النفق المظلم والتوصل إلى حل سياسي يعطي الثقة للشعب السوري في الخلاص من الصراع، ويساعد على مكافحة الإرهاب ، وخطوة مهمة باتجاه فتح الطريق للحوار بين مختلف المكونات السورية، وفي موازاة ذلك تسير الأمور إلى تشكيل مجموعة إتصال من الدول الكبرى مع حرص بعض الدول الغربية على أن تكونا جزءاً من هذه المجموعة، لتنشيط الجهود من أجل تحقيق التسوية السياسية الدبلوماسية للأزمة السورية وفق بيان الأستانة وكذلك على ضرورة توحيد الجهود بهدف التصدى الفعال لتنامي الإرهاب الذى يشكل إنتشاره خطرا أمام سورية وعلى الأمن فى المنطقة والعالم، وعزموا على تحقيق مبادرة المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سورية حول التنسيق بين مواقف دمشق والمعارضة المسلحة بشأن المسائل المتعلقة بضمان السلام المدني في سورية، بالإضافة إلى إنشاء مجموعة اتصال بمشاركة الجهات الإقليمية والدولية المعنية، وذلك بهدف عقد مؤتمر جنيف أواخر الشهر القادم.
في هذا السياق يمكن القول إن صعوبة الوصول إلى حل سياسي اليوم هو عدم تبلور موقف واضح من جانب العديد من القوى الرئيسية المشاركة فى تلك الإجتماعات، التى ما زال موقفها إزاء بعض القضايا الرئيسية يتسم بالتردد والغموض، في هذا الإطار أصبحت موسكو هي باب الأمل والضامن الحقيقي في دعم الحل السياسي في سورية، وهناك إتصالات تجرى خلف الكواليس بين قيادات روسية من جهة وأطراف الأزمة من جهة أخرى، سواء من داخل سورية أو الأطراف الدولية والإقليمية، على إيجاد وسيلة للتشجيع على هذا الحل، وإنطلاقاً من ذلك تم التأكيد على أهمية الضغط على الدول التي توفر الدعم المالي والسياسي والعسكري واللوجيستي للتنظيمات الإرهابية للتوقف عن ذلك على أساس أن القضاء على الإرهاب يشكل المدخل لنهاية الأزمة في سورية والحفاظ على الإستقرار في المنطقة.
وفي الاتجاه الآخر وافقت واشنطن على أن تعمل موسكو على إعادة إحياء المسار السياسي المجمد خاصة بعد النمو المفاجئ والسريع لتنظيم داعش وإمتداده على مساحات واسعة من الإقليم، إن هذا التطور على الأرض كان له الدور الأساس في تبدل مواقف الإدارة الأميركية والدول الغربية التي شعرت بأن معظم مصالحها في المنطقة باتت في خطر، وأن الإرهاب الذي كان ينمو داخل كل من العراق وسورية بات قاب قوسين ليرتد عليهم ويبدأ بالضرب داخل دولهم أو على الأقل داخل حلفائهم في المنطقة.
وأخيراً أختم مقالي بالقول إن السوريون بعد مفاوضات الآستانة أصبحوا في بداية طريق الحل لكن هذا الطريق لن يكون سهلا لذلك لا بد لكل الأطراف السورية ان تتضامن وتعمل معا للوصول الى نهاية هذا الطريق المظلم، وبتقديري إن مؤتمر جنيف لا يحل محل الحوار الداخلي، وهو بالتأكيد لا يحل محل رأي الشعب، وإذا توفرت شروط الحل السياسي الحقيقي سيكون جنيف خطوة تمهيدية وناجحة لتجاوز الأزمة، لذا يجب على جميع الأطياف السورية أن تشارك في مسار التفاوض السياسي من خلال المشاركة الفعالة في المؤتمر المزمع عقده خلال الشهر القادم لإيصال سورية الى بر الأمان، ووقف إراقة الدماء والحفاظ على وحدتها وإستقلاليتها