اتسمت دعوة الولايات المتحدة إلى المشاركة «بصفة مراقب» في المحادثات السورية في آستانة برمزية حتمتها ظروف الانتقال من إدارة إلى إدارة في واشنطن، لكنها قد تبقى في شكل أو في آخر ملازمة للتعامل الأميركي مع هذه الأزمة، أي أن يستمرّ «مراقباً». فالرئيس دونالد ترامب لم يبدِ، خلال حملته الانتخابية، أي اهتمام بالأزمة السورية خارج محاربة الإرهاب، وحصل شبه تبادل للتحيات بينه وبين بشار الأسد إذ قال الأول: «لا أحب الأسد، لكنه يحارب داعش» وردّ الآخر بأن «ترامب سيكون حليفاً إذا حارب الإرهاب»، وبعد ذلك وجد المرشح الجمهوري قبيل انتخابه ضرورة لتضمين برنامجه أي اقتراح عملي فأضاف تأييداً مبدئياً لإنشاء منطقة آمنة في شمال سورية ليلجأ إليها النازحون الجدد. وغداة انتخابه قدّم ترامب ما يشبه الضوء الأخضر للإجهاز على حلب، ولم تستثر الفظائع والجرائم أي ردّ فعل من جانبه ولا حتى أي موقف إنساني، أما التفاهمات الروسية - التركية التي سبقت مأساة حلب وتلتها فطوت عملياً مسألة «المنطقة الآمنة»، ولم تعد أنقرة تتحدّث عنها. بقيت إذاً الحرب على «داعش»، ولا يريد ترامب أن يكون فيها مراقباً.
في خطاب التنصيب قال ترامب عبارته المفخّخة: «سنوحّد العالم المتحضّر ضد الإرهاب الإسلامي المتطرف الذي سنزيله في شكل كامل عن وجه الأرض». كان الرؤساء الثلاثة الذين سبقوه مباشرة إلى البيت الأبيض، وواجهوا تفاقم خطر الإرهاب، تفادوا إلصاق الصفة «الإسلامية» به، سواء مراعاةً لحساسيات المسلمين الذين يرفضون «إسلامية» الإرهاب ولا يعترفون بها، أو أيضاً لأن إزالة الإرهاب تحتاج إلى تعاون المسلمين، أو خصوصاً للحؤول دون جدل شعبي قد يتدهور في مجتمعات الغرب إلى مواقف تمييزية وعنصرية. ومنذ إفادات مرشحي ترامب للوزارات الرئيسية أمام لجان الكونغرس، بدا اعتماد هذا المصطلح معبّراً عن روح مختلفة لسياسة الإدارة الجديدة وأولويتها التي حدّدها بيان نشره موقع البيت الأبيض كالآتي: «هزيمة الدولة الإسلامية وجماعات الإرهاب الإسلامي المتطرّف ستكون أولويتنا العليا». وعدا اللغة الشديدة لم يقل البيان بماذا ستختلف حرب ترامب على الارهاب، إذ إن الوسائل التي ذكرها (عمليات عسكرية نشطة، قطع التمويل عن «داعش»، مواجهة دعايته وتجنيده بالهجمات الإلكترونية، وتوسيع تبادل المعلومات الاستخبارية) هي ذاتها التي أوردها الوزير جون كيري في مقالة (نيويورك تايمز 20/01) عن إنجازات الإدارة السابقة بدءاً بمحاربة الإرهاب التي يُفترض أن تبلغ غاياتها المرسومة خلال ولاية ترامب.
مع أن أميركا أوباما أولت الخطر «الداعشي» أهمية، إلا أنها حافظت إلى حدٍّ ما على مقاربة مختلفة للأزمة الداخلية في سورية، مميّزةً بين معارضة «معتدلة» وجماعات متشدّدة، ومتعارضة جزئياً مع المفاهيم التي تبنتها روسيا. الفارق مع أميركا ترامب أنها أعطت انطباعاً قويّاً بأنها تميل إلى ترك روسيا تدير الملف السوري، كما أنها انزلقت باكراً وسريعاً إلى اختصار الأزمة بالإرهاب لتلتقي بذلك مع بروباغندا الأسد والإيرانيين، أما جديدها غير المؤكّد بعد فقد يكون التعاون مع روسيا ضد الإرهاب، وكان أن هذا التعاون رُفض من جانب البنتاغون والاستخبارات قبل اتفاق كيري - لافروف في أيلول (سبتمبر) الماضي وبعده. ويمكن القول أن روسيا غيّرت خلال الفترة الانتقالية بين الإدارتين الأميركيتين الكثير من معادلات الأزمة السورية ومن معالم الحرب على الإرهاب، إذ وسّعت نطاق عملياتها الجوية ضد مواقع «داعش»، وتفاهمت مع تركيا على دور لها داخل الأراضي السورية، وهو ما رفضه الأميركيون دائماً مفضّلين التعامل مع الأكراد، كما تغاضت روسيا عن اقتراب قوات الأسد وميليشيات إيران من مناطق «داعش» لفرض أمر واقع بمشاركتها في محاربة الإرهاب.
يُفترض أن يوضح الرئيس الأميركي الجديد خلال الأسابيع المقبلة، المدى الذي يحبذه للاستقالة الأميركية من الأزمة السورية، فالعودة إلى الخوض في تفاصيلها هي أيضاً عودة إلى مساواة لا يريدها مع روسيا. وما دامت إدارة أوباما حاججت دائماً بأن لا مصالح أميركية في سورية عدا القضاء على «داعش»، فلن يكون مستغرباً أن يتمسّك ترامب بفضيلة هذه المصلحة واعتبار غياب المصالح الأخرى مبرّراً كافياً للإحجام عن التدخل في الحل السياسي وشروطه، وهو ما سترحّب به إيران التي اتخذت من مشاركتها في «رعاية» محادثات آستانة فرصةً لمناكفة أميركا بمعارضة دعوتها إلى آستانة حتى «بصفة مراقب» ومحاولة إقصائها نهائياً عن الملف السوري، إلى الحدّ الذي استوجب ردّاً غاضباً من الكرملين. وكانت إدارة أوباما تظاهرت، بل أوحت بأن «الشراكة» التي أقامتها مع روسيا مكّنتها من تمثيل (والدفاع عن) المعارضة السورية وطموحاتها، كذلك مصالح الأصدقاء العرب في سورية، وإذ لم يتحْ للمعارضة و «الأصدقاء» أن يلمسوا نتائج مفيدة لهذا الدور الأميركي فإن إدارة ترامب لا تبدو معنيةً به، بل تأخذ في الاعتبار أن تغييراً طرأ على معطيات الأزمة السورية.
ثمة خطأ أميركي علني وواضح للعيان في صدد أن يُرتكب، تحديداً في اختزال ما حصل في سورية بأنه «إرهاب إسلامي متطرّف يجب أن يُزال عن وجه الأرض». أكثر من صوتٍ سُمع يُحذّر من أن «لغة» ترامب وفّرت دعاية مجانية لـ «داعش» وأشباهه. لكن، إذا أرادت إدارته أن تتمايز فعلاً فأمامها خيار إنهاء المهادنة التي اتّبعتها إدارة أوباما تجاه دور النظامَين السوري والإيراني في دعم الإرهاب، سواء بإيواء تنظيم «القاعدة» ومنحه تسهيلات مقابل استخدامات شتى، أو بتصنيع «داعش» وتوظيفه في تغيير طبيعة الأزمة، ثم بتفريخ الميليشيات من داخل الجيش الأسدي وعلى هامشه. فهذا الواقع الميليشيوي أضحى رديفاً لـ «داعش» ويماثله في الانتشار بين سورية والعراق، بل لعل إرهابيته أكثر خطراً كونها مرتبطة بنظامَين متحالفَين يوفّران لها الإمكانات العسكرية والتغطية السياسية. وإذا لم تُشمل هذه الميليشيات في ضرب «الإرهاب الإسلامي المتطرّف»، فإنها ستكون على الدوام دافعاً لاستمرار الإرهاب بوجوه متعدّدة وسبباً لعدم استعادة الاستقرار. ويكفي هنا مثلاً أن الحرب على «داعش» والقضاء عليه لا يحولان دون إنهاء الصراع السوري بحل سياسي، في حين أن وجود الميليشيات الإيرانية وبقاءها كفيلان بتخريب أي حل لا يتناسب مع أجندة طهران.
من هنا، إن ضرب «داعش» لن يجدي إذا لم يتصدَّ لكل عناصر الإرهاب سواء كانت سنّية أو شيعية، وقد أظهرت «معارك التحرير» في العراق أن علّة ظهور «داعش» كانت في النظام العراقي ذاته واعتماده ولو غير المعلن على الميليشيات، ولا يزال الخطر على مرحلة «ما بعد داعش» يكمن في النظام ذاته وفي عجزه عن بلورة مصالحة وطنية. أما في سورية فكانت تفاهمات كيري - لافروف توصّلت إلى مفهوم مبتسر قوامه أن ضرب المعارضة هو أيضاً ضربٌ للإرهاب، على رغم أن تقارير الأجهزة شخّصت مسؤولية نظامَي دمشق وطهران عن استشراء الوباء الإرهابي وجماعاته. وبديهي أن إلقاء وصمة الإرهاب على كاهل المعارضة السورية لم يكن خطاً آخر ولم يلقِ بظلاله الثقيلة على البحث في الحل السياسي فحسب، بل شكّل وسيشكّل تشويهاً لطبيعة ذلك الحل، خصوصاً إذا اعتُمد فيه المفهوم الروسي الذي لا يزال مبنياً على بقاء النظام ورئيسه وعلى استثمار هزيمة المعارضة في حلب. فمثل هذا الحل الالتفافي الذي ستطلب موسكو من مجلس الأمن أن يضفي عليه شرعية دولية، وقد يلقى قبولاً لمجرد أنه يخفّف حدّة الصراع المسلّح ويريح دولاً غربية من ضغوط موجات الهجرة، سينطوي على دعوة إلى المجتمع الدولي لقبول ديكتاتور دموي واعتباره حجر الزاوية للتطبيع السلمي في سورية. والأغرب أنه حتى قبل التوصّل إلى أي وقف للنار أو إلى هدنة ثابتة أو إلى حل على الإطلاق باشرت روسيا وإيران تتوزّعان المكاسب والمغانم، الأولى بتوسيع قاعدة طرطوس الحرية للمكوث فيها لخمسة عقود مقبلة بعد حصولها على أفضلية أو احتكار الكثير من القطاعات، والثانية بانتزاع ميناء نفطي وترخيص لشركة هاتف جوّال وأراضٍ ومناجم فوسفات للاستغلال... كل ذلك يتمّ استباقاً لأي خيارات تحدّدها إدارة ترامب، أو الأرجح لأن هذه الإدارة لا تكترث بما يتحاصصه الروس والإيرانيون ولا بحقيقة أن هذا التحاصص يتجاوز أي حكومة مقبلة ذات تمثيل جامع وفقاً لما روّجت له موسكو دائماً.
* كاتب وصحافي لبناني