إن التدخل العسكري الروسي في سورية وضع موسكو في قلب المعادلة الدولية المتعلقة بسورية حيث باتت طرفاً أساسياً يستحيل تجاهله في أي حل مستقبلي للأزمة، أكثر من ذلك تبدو موسكو اليوم وكأنها تحظى بتفويض دولي رسمي لإيجاد هذا الحل، كونها الوحيدة من بين كل الدول المعنية بالصراع، القادرة على التواصل مع كل الأطراف السورية سواء كانت الداخلية، أو الإقليمية، أو الدولية.
تترقب الأوساط العالمية الرئيس الروسي بوتين بإهتمام بالغ لجهة ما قد يحمله من مفاجآت ومبادرات ستغير طبيعة التعامل الأممي مع أزمات الشرق الأوسط وخاصة سورية، لكن اليوم فاجأ العالم بإتفاق الوقف الشامل لإطلاق النار في سورية، ويُعتبر هذا الإتفاق هو الأشمل والأكثر جدية منذ بدء الأزمة السورية عام 2011م، ويختلف عن اتفاقيات وقف إطلاق النار التي كانت تتم خلال مباحثات جنيف السابقة، لكن مفاجأة الإعلان عن اتفاق وقف النار كانت صادمة بالنسبة لواشنطن، وهو ما حدا بها إلى طرد 35 دبلوماسياً روسيّاً عقب الإعلان عن تلك المبادرة، بالمقابل تسابق روسيا الزمن قبل حلول العشرين من هذا الشهر، وهو موعد إستلام الرئيس الأمريكي الجديد ترامب للسلطة، ليأتي ويجد وضعاً جديداً في سورية وعلى أساسه يكون التنسيق بين واشنطن وموسكو نحو التوصل إلى حل سلمي للأزمة السورية.
في سياق متصل إن خارطة الطريق التي جاءت نتيجة التحركات الدبلوماسية بين روسيا وإيران وتركيا المستمرة منذ عدة أيام ، تتمثل في وقف إطلاق النار، إذ أن روسيا وتركيا هما ضامنين لوقف إطلاق النار، فروسيا ستكفل فيها الحكومة السورية وحلفاؤها، وتركيا ستكفل المعارضة المسلحة وحلفاؤها، وأن جبهة النصرة وداعش المصنفتين بالإرهاب خارج اتفاقية وقف إطلاق النار، وفي حال طُبّق قرار وقف إطلاق النار، ونجحت الأطراف في تحقيق ذلك، فإن الأطراف ذات الشأن ستدعى إلى اجتماعات كازخستان " أستانا"، وسيكون وجود روسيا وتركيا وإيران كمراقبين ومسهلين لسير هذه المحادثات، وفي حال حققت هذه المحادثات نتائج إيجابية، من المقرر أن تُجرى في "جنيف" محادثات أخرى حول سورية للوصول الى حل سياسي للأزمة السورية.
في هذا السياق عبر بوتين عن أمله في المؤتمر الذي سينعقد في "أستانا"، وأهمية أن تنتج عنه آلية دولية للمتابعة، وجدول زمني للتنفيذ، والمتابع لتحركات وزير الخارجية الروسي لافروف في المنطقة، وسفره إلى عدة دول عربية وإقليمية وغربية وتصريحاته الأخيرة يدرك تماماً أن التنسيق قائم على قدم وساق بين موسكو وأنقرة وإيران، وأن الهدف هو إفشال المشروع الأمريكي في المنطقة، بذلك أثبتت المعطيات صواببة الموقف الروسي تجاه الأزمة السورية، والذى يتمحور حول ضرورة التوصل إلى حل سياسى لا يقصي أي طرف من الأطراف، ويحافظ في الوقت نفسه على وحدة الأراضي السورية ومؤسسات الدولة وعلى رأسها الجيش السوري ودعمه ليكون قادراً على طرد كل الجماعات الإرهابية، وهنا نرى بأن هناك رؤية إستراتيجية موجودة في كل الأوساط الروسية وعلى أعلى المستويات مفادها أن سورية القوية التي بدورها الفاعل والمؤثر في المنطقة، هي سورية التي يمكن ان تسهم في عودة الإستقرار مرة اخرى الى منطقة الشرق الاوسط كما ان هناك رؤية إستراتيجية ثابتة وهي دعم سورية بغض النظر عن المصالح أو الأهداف الشخصية.
وإنطلاقاً من ذلك يمكن القول أن اللعبة إنتهت بالنسبة لأدوات أمريكا في المنطقة بعد أن قررت روسيا بالتنسيق مع أنقرة وطهران قلب الطاولة على الجميع، ولم يعد بإستطاعة أحد تحدي المارد الروسي الذي جاء بكل ثقله للدفاع عن سورية، فجميع التحركات.والتصريحات تشير في جملتها إلى أن المنطقة، على أبواب مرحلة جديدة، وأن مرحلة الصراعات والفوضى التي عمت الإقليم، في السنوات الماضية، قد إستنفذت غاياتها، وأننا نتجه نحن مرحلة التسويات، برغم من إن ليس هناك ما يؤكد رغبة أمريكا في حسم ملفات القضايا والمشكلات الإقليمية .
مجملاً.... يمكن القول لقد جاء توقيع اتفاق الوقف الشامل لإطلاق النار في سورية ليُحدث حالةً واسعةً من الإرتياح لدى السوريين التي تتوق إلى توقف شلال الدم السوري والحرب التدميرية التي باتت تهديداً للمنطقة وتفتح طريقاً نحو الحل السياسي، أما تركيا ستحقق من هذا الإتفاق منع قيام كيان كردي مستقل في سورية يتواصل مع أكراد العراق وتركيا وبالتالي يهدد تماسك الاراضي التركية ، كما أنها بهذا الاتفاق تستطيع إعادة اللاجئين إلى بلادهم وبالتالي تخفيف الضغط الاقتصادي والاجتماعي عليها، لذلك إن اللقاء المرتقب في عاصمة كازخستان "أستانا" في منتصف هذا الشهر سيقوم ببلورة جميع الأفكار والأطروحات السياسية للخروج بصيغة توافقية لحل الازمة السورية، كما سيكون هناك صياغة جديدة بها شيء من المرونة لحل هذه الأزمة بشكل نهائي، وبالتالي فأن هذه المفاوضات إن دلت على شيء، فإنها تدل على أن موسكو لاعب مؤثر على مجريات الأوضاع الدولية عامة والشرق أوسطية خاصة رغم محاولات واشنطن عزلها عن المنطقة.
وأخيراً أنا عـــلـــى يـــقـــيـــن تـــام بـــأننا ســـوف نتحد أمام من يريدون تمزيقنا وإدخالنا في صراعات مع بعضنا البعض، كما سنتكاتف أيضاً ضد من يحاولون بأي شكل إفساد وحدتنا، ومن ثم لا مجال لنا سوى تأسيس سورية الحديثة، ولا شك أنّ الجماعات الإرهابية ستعمل على القيام بعمليات انتقامية كلما زاد حصارها والخناق عليها، لكن مهما فعلوا ومهما حدث لن ينجحوا، وستستمر سورية بتحقيق المكاسب، إذاً هي معادلات جديدة رسمتها دمشق لتحقيق النصر، و فشل أعداءها بإخضاع سورية أو تحقيق أي نصر على جيشها.