ماروني البلاد النجدية

mainThumb

22-11-2016 09:33 AM

اوائل الثمانينات أصدر الدكتور جميل جبر، من "منشورات الجامعة اللبنانية"، كتاباً أنيق المحتوى والشكل، عن أمين الريحاني، في نحو 100 صفحة. يومها رأيت في مؤلف الدكتور جبر مرجعاً كافياً لدارسي ابن الفرَيْكة. ومع السنين والسفر إلى الولايات المتحدة، والمزيد من الاطلاع على حياة الريحاني وأعماله، أخذت أشعر أن الرجل الظاهرة أكبر من مكتبة بأكملها. وعلى رغم كل ما قرأت، وما أعدت قراءته، لا أزال اعتقد أن امين الريحاني كان أكبر من ان يمكن مجلداً، أو مجلدات، أن تلم بسيرته كاملة، شاعراً وروائياً واديباً واصلاحياً ورحّالة، وممثلاً مسرحيا ومتمرداً وعاشقاً ومغامراً.

 
اينما تلفَّت، اوائل العشرينات حتى اواخر الثلاثينات، ترى أمين الريحاني: في "البلاد النجدية" عند "السلطان آل سعود". في الكويت، عند الشيخ مبارك الكبير. في البحرين، في طريقه إلى الرياض. في بغداد، ملتقياً "الخاتون" غيرترود بيل. في العقير، شاهداً في مؤتمر العقير بين الملك عبد العزيز ووفديّ العراق والكويت والسير بيرسي كوكس. في جدة، عند الشريف حسين، الذي سوف يخسر الحجاز لعبد العزيز بعد حين، وفي اليمن. في المغرب. ثم عائداً يرتاح في الفريكة. وفيها توفي العام 1941 عندما اصطدمت دراجته بشجرة لعينة، وكان عمره 62 عاماً. ولكن يصعب عليَ أن افكر كيف كانت الـ 62 عاماً كافية لأن يسافر الريحاني عبر الاطلسي مرة بعد مرة، وأن يجول في الولايات المتحدة، مرة بعد مرة، وأن يدور حول أوروبا، ومنها رحلة من باريس إلى لندن مع جبران خليل جبران، ثم نراه مع الشيخ خزعل في المحمرة، يحدثه في ما حدَّث فيه أهل الجزيرة: الوحدة العربية والخطر الصهيوني.
 
يخاطب الريحاني عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل في رسائله (1) "مولاي العزيز المعظم، السلطان". ويرد عليه السلطان "لحضرة العالِم الفاضل والصديق الوفي الكامل امين افندي الريحاني المحترم". واحياناً، يلقبه "رضيع سحر البيان والمعاني، صديقنا الوفي".
ونرى هذا الماروني القروي عارفاً بعادات الجزيرة وأحوال السياسة فيها. ويعرف معاني الدين تماماً، لكنه لا يمالق، مع أنه كان يخوض في نيويورك معركة قاسية ضد الاكليروس المسيحي والتقاليد، إما متأثراً بصديقه جبران، وإما بالموجة العامة التي كانت سائدة تلك المرحلة.
 
لكنه لا يقحم شيئاً من هذا في علاقاته مع أهل الجزيرة، مع أنه لا يترك مسألة سياسية لا يعطي فيها رأياً: الاتفاقات النفطية. التوسط لدى عبد العزيز من أجل فؤاد الخطيب، وزير خارجية الشريف حسين، كي ينضم إلى دائرة السلطان. والدائرة يومها كانت مؤلفة من حافظ وهبه المصري، والشيخ يوسف ياسين السوري، والسعداوي من ليبيا، والحاج حسين العويني والشيخ فؤاد حمزة من لبنان. وترى هذا الفريكي مالك الوقت، يكتب إليهم جميعاً، مقترحاً، مصححاً، طالباً نقل رأي، أو اقتراح إلى السلطان، محركاً موضوعاً قديماً، أو طالباً تذكير السلطان بأمر مهم ما. حتى اتفاق النفط الذي عقده الملك عبد العزيز مع الاميركيين، اقترح عليه الريحاني 19 تعديلاً. ودائماً في رسالة خطية مرفقة بملحق "خصوصي".
 
امتدت الصداقة من عبد العزيز إلى نجله الأمير فيصل، وزير الخارجية. يكتب إليه الريحاني العام 1937: "هذه الحكومة الأميركية، تريد أن تساعد اليهود لما لهم من نفوذ في البلاد وخصوصاً أيام الانتخابات. ولا يفوتكم أن في فوز اليهود، القضاء ليس على فلسطين فقط، بل على القضية العربية، وعلى النهضة العربية القومية. بل أن في الصهيونية خطراً ليس على بلدان شرق الأردن وسوريا والعراق فقط، بل على المملكة السعودية ايضاً. فالهدف الصهيوني هو أبعد من وطن قومي يهودي في فلسطين... فالاتحاد، الاتحاد يا سيدي الأمير".
غادر هذا المكوك البشري المذهل لبنان إلى نيويورك وهو في الرابعة عشرة من العمر، حيث عمل مع عمه في دكان على اطراف المدينة. وهي مهنة (محاسبة) عمل فيها أيضاً رفيق "الرابطة القلمية" الآخر، ميخائيل نعيمة، مع اخوته. وضاقت الدكان الصغيرة على طموحات الريحاني، فماذا سوف يجرِّب؟ انضم إلى فرقة مسرحية جوّالة تقدم "هاملت"، وبقي فيها إلى ان أفلست بعد ثمانية أشهر. وفي هذه الأثناء، كان زوج اخته، نعوم مكرزل، قد أنشأ جريدة "الهدى" في بنسلفانيا، قبل نقلها إلى نيويورك، فانضم إليها كاتباً، شَرطه ألاَّ تُمس كلمة من كلماته إلا لغرض لغوي! ومن "هاملت" إلى "كتاب خالد"، أولى الروايات بالانكليزية، إلى شاعر تنشر قصائده مجلة " اتلانتك"، إلى تجريب النحت، كما افلح جبران في الرسم، إلى نشاطات "الرابطة القلمية" التي، لفترة، نقلت جزءاً من الأدب العربي إلى نيويورك، المدينة التي سوف تلمع فيها اسماء النجوم الكبار "الخالدين"، ومع الثلاثة اسم ايليا ابي ماضي، الصوفي الآخر الذي انضم إلى الألق الثلاثي الذي لم يتوقف، إلا بالعبور إلى الغياب.
 
جميعهم تعاطوا السياسة، أو العمل الوطني. جميعهم كانوا ضد الاستعمار التركي، وجميعهم رأوا في أميركا تلك الأيام، نصيراً للمظلومين وضحايا الاحتلال. لكن الأكثر تسيساً كان دون شك، الرحالة الأبدي. وقد "استقر" جبران ونعيمة باكراً، أما هو فاستمر في العدو حتى رحلة الدراجة العبثية في مسقط رأسه ومهوى جسده. واتفق ايضاً أن الثلاثة الذهبيين لم يتزوجوا، على رغم حالات الحب و"الاجنحة المتكسرة" وفتاة فولتافا، في اوكرانيا، التي أحبت نعيمة وأحبها. ولكن على رغم زحمة النساء عند جبران، وحب المتزوجات عند الريحاني، وقلتهن عند نعيمة، بقوا ثلاثتهم خارج القفص الذهبي وداخل أسر العطاء الدائم.
 
مال الثلاثة في تلك المرحلة إلى نوع من الاشتراكية الفابية. لكن الريحاني وحده انغمس في العمل السياسي ومهمة "التنوير". وفيما أقامت مي زيادة علاقة حب رومانسية بالمراسلة مع جبران، أقامت علاقة "نضال" ومعارك مع الريحاني، وانتهت تلك العلاقة بمأساة مي التي اتهمها أقاربها بالجنون لكي يسطوا على ثروتها. وغابت وهي تعاتبه "أمين، أين أنت؟ أين وعودك لي؟ لماذا انت غير قادر على انقاذي؟".
 
مهاجرون كثيرون ساهموا في صناعة بداية القرن الماضي على طريقتهم. ترك جبران الأثر الأكبر في "النبي"، لكن الريحاني ترك الأثر السياسي الأكبر كداعية للقومية العربية ومبشر بالوحدة. وفيما كان الماروني نجيب العازوري يحذر من باريس من الخطر الآتي في فلسطين، كان الريحاني يجوب العالم العربي بنفسه، حاملاً راية الوحدة، من غير أن يتوقف ثانية واحدة أمام عقدة الماروني النصراني.
 
قبل نحو ربع قرن، قرأ صحافي لبناني في سيرة الريحاني، ثم خرج باستنتاج فطين: جاسوس. الريحاني، جاسوس. وربما رفع تقريراً في ذلك ايضاً. وفي هذه المهنة لا يُحسد الصحافيون الناجحون من الاحياء فقط، بل الاموات أيضاً. وكلما كان الرجل عبقرياً ومبهراً، كان جاسوساً.
 
قررت الحكومة السعودية، الفريق الأول المعني في هذا الموضوع، أن تضع حداً للتصريحات الصغيرة في حق العمالقة، فعقد سفيرها في لبنان الاسبوع الماضي، وليد بخاري، في دارته، مجموعة لقاءات تحت عنوان واحد: "عروبة أمين الريحاني".
 
قبل نحوعقدين، جاء الملك سلمان بن عبد العزيز إلى بيروت، يومها أمير الرياض، فأقيم له حفل تكريم كان خطيبه الأول الراحل منح الصلح. تطلع البيك صوب المتن وبدأ خطابه بالقول، من تلك القرية الصغيرة، الفريكة، بدأت العلاقة بين هذا البلد الصغير وسيد الجزيرة العربية، بواسطة رائد ماروني يدعى امين الريحاني.
 
جاسوس؟ يليق هذا النعت بصغار النفوس وخلاة القلوب. الريحاني كان في عصره أكبر من عصره، وأكبر وأبعد وأعمق من جبل لبنان الذي ولد فيه، في قرية لا تزيد على مائة نسمة وفرس تحمله في الطرق الوعرة، وتضعه على البيدر، حيث يتأمل الربيع والأفق والوان الغياب، ويعود إلى أجمل شيء في حياته، تقبيل يد أمه.
 
من تلك المزرعة الصغيرة سوف يسافر كولومبوس المذهل حول الأرض، تدور به ويدور بها، في الصحارى والمحيطات والمحطات والمرافىء. حتى في لبنان لم يهدأ، وترك لنا سفر الأسفار، "قلب لبنان".
 
(1) "الملك عبد العزيز آل سعود وامين الريحاني: الرسائل المتبادلة"، دار أمواج، 2001.
 
صحيفة النهار 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد