لم يعد هناك من صديق أو من حليف للولايات المتحدة الأميركية. في مجلس الأمن استمرت «المهزلة» التي لم يعد يصدقها أحد. سامنثا باور السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة كادت تبكي، بعد ظهر الأحد الماضي، وهي تعدد أخطاء روسيا. ثم انسحبت هي وسفيرا فرنسا وبريطانيا عندما بدأ المندوب السوري بشار الجعفري يلقي كلمته.
في كلمتها، اتهمت الروس بالكذب. كان هذا توجيهًا من وزارة الخارجية الأميركية، فحسب مسؤول فيها فإن صبر جون كيري وزير الخارجية الأميركي قد نفد، بعد تعرُّض قافلة المساعدات الدولية لـ«القصف الروسي». يوم الاثنين الماضي، قال البيت الأبيض إن الرئيس باراك أوباما قلق بشأن الوضع في سوريا، ربما ليسمح لكيري المتفائل بأن يستمر في محاولاته تحقيق بعض النتائج الإيجابية من المحادثات مع الروس. لكن مشكلة كيري أنه ينطلق من موقع ضعف، إذ إن الرئيس أوباما كان حاسمًا في رفضه أن يلتزم بإرسال قوات برية أميركية أو أسلحة متطورة إلى المعارضة السورية، بحيث تستطيع التصدي للهجمات العسكرية الروسية في سوريا، أو مواجهة قوات نظام الأسد. يعرف كيري أن نظام الأسد ولأكثر من 5 سنوات يقوم بهجوم منهجي ضد كل المعارضين السوريين، سواء كانوا متشددين، أو معتدلين يسعون إلى إزاحة حكمه الاستبدادي.
وفي حديث إلى «سي إن إن»، أصرّت بثينة شعبان مستشارة الأسد على وصف كل المعارضة بالإرهابيين. نعود إلى مسألة اتهام السفيرة سامنثا باور الروس بالكذب، يقول مصدر في الإدارة إن كيري يعرف أن الروس «حفنة من الكذابين» حتى قبل الهجوم على قافلة المساعدات المتوجهة إلى حلب، حيث اتهمت موسكو كل الأطراف الأخرى، باستثناء طيرانها، فقد شعر المسؤولون الأميركيون بالذعر من الكذب الروسي الصارخ. قبل أسابيع قال مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية: «عندما نقول للروس إن لدينا أدلة على أن طائراتهم العسكرية تستهدف تجمعات المدنيين، يكون جوابهم: كلا، إن الغارات يقوم بها الطيران الأميركي». ثم أضاف: «كيف يمكن أن نتعامل مع هذا النوع من الناس؟!».
بالنسبة إلى الروس، فإنهم يستغلون عدم قدرة الولايات المتحدة على فصل حلفائها في المعارضة عن المتشددين. ونُقل عن مسؤول روسي: «إن الأميركيين لا يعرفون مَن يدعمون، وليس لديهم السيطرة على المقاتلين». لكن المؤكد أن روسيا تشعر بالضغط بعد الهجوم على قافلة المساعدات، إلى درجة أنها اتهمت أصحاب «الخوذات البيضاء» بأنهم وراء الهجوم. وهؤلاء مجموعة من المتطوعين لإنقاذ الضحايا في حلب، وتم ترشيحهم لجائزة نوبل. كما أن الروس اتهموا الطائرات الأميركية من دون طيار، وهاجموا مصداقية المصادر الأميركية، وقالوا أحيانًا كتبرير، إن الإسلاميين الراديكاليين كانوا جزءًا من قافلة المساعدات، وإنه جرى تفريغ الحمولات في حلب قبل تعرض القافلة للهجوم. يقول المصدر الأميركي: «هذا التخبط الروسي في الاتهامات العشوائية يجعل حتى المتحدثين سابقًا باسم الاتحاد السوفياتي يخجلون».
التخبط الروسي يماثله تخبط في الإدارة. والمستفيد الرئيسي من هذا التخبط كان ولا يزال إيران. عندما دعا كيري في مجلس الأمن إلى وقف الغارات الجوية في سوريا ليتسنى للمساعدات الإنسانية الوصول إلى حلب، كان أول المحتجين والرافضين الرئيس الإيراني حسن روحاني؛ ففي حديث مع شبكة «إن بي سي» الأميركية، عندما سُئل روحاني عن رأيه في هذا الطرح، استفاض في التذكير بأن قوات التحالف قصفت موقعًا للجيش السوري، بمعنى أنه «كان دفاعًا عن (داعش)». وأضاف: «لذلك إذا أوقفنا كل الغارات الجوية، فهذا يعني السماح لـ(داعش) بالاستمرار في القتل الهمجي. إذا أوقفنا الغارات فإن ذلك سيكون لمصلحة الإرهابيين»، عاد المذيع ليسأله: «لكن هل تدعم وقف الغارات الجوية على الأقل لأسبوع واحد أو أسبوعين؟»، رد روحاني: «هذا ليس بالحل لتجنب قصف مثل هذه القافلة (...)».
في مقال بصحيفة «نيويورك تايمز» كتب روجر كوهين: «إن سوريا كانت أسوأ أخطاء أوباما. إنها كارثة لا يمكن أن تستثير أي فخر، وتجاوز (الخط الأحمر) قوّض كلمة أميركا، وقوى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كما ثبَّت بشار الأسد في السلطة».
لكن، يبقى أن الجانبين «يكذبان». ولم تكن حقيقية «دموع» سامنثا باور يوم الأحد الماضي، عندما اتهمت الروس بالكذب والوحشية. الكل يتفق على أن إدارة الرئيس أوباما أعطت سوريا والشرق الأوسط لروسيا. وانسحاب السفراء الغربيين من الجلسة لا يعني عدم «موافقتهم» على بقاء الأسد في السلطة. وتجدر الإشارة إلى أنه في مؤتمر صحافي للرئيس أوباما في 18 من ديسمبر (كانون الأول) 2015، قال التالي عن روسيا: «لقد ناقشت تكرارًا منذ 5 سنوات اقتراح الرئيس بوتين، وأعتقد أن بعض الجمهوريين يتبنون الآن الاقتراح نفسه، بأن الأسد ليس سيئًا للغاية، ولنسمح له بأن يمارس الوحشية والقمع قدر ما يستطيع، لكنه على الأقل سوف يبقي على النظام». يضيف الرئيس أوباما: «قلت: انظروا. إن المشكلة في أن محاولة الحفاظ على النظام، عندما تصير الغالبية العظمى في البلاد ضدك، ليست بالأمر الجيد. وها أنا بعد 5 سنوات أثبت صحة رأيي».
هذا كان العام الماضي، لكن يتساءل محدثي: لماذا لم يفرض البيت الأبيض «الخط الأحمر» على النظام السوري في عام 2012؟ ولماذا لم يفعل شيئًا ليوقف الأسد؟ ولماذا لا يفعل شيئًا الآن؟ ويجيب: «بصرف النظر عن التبجح بقتال (داعش)، وتقليص مساحة الأرض التي يسيطر عليها في سوريا والعراق، فإن رفض أوباما التدخل ليس بسبب فشل التدخل الأميركي في العراق، هناك أمر آخر أساسي وحقيقي، هو الصفقة النووية مع إيران. وتفسير ذلك بسيط جدًا؛ لو تدخلت الولايات المتحدة عسكريا في سوريا لما تمت الصفقة مع إيران». يضيف: «في الواقع، إن الدعم الأميركي للتدخل الإيراني في سوريا كان الشرط المسبق للصفقة». ويستعرض محدثي ما قاله أوباما في مؤتمره الصحافي آنذاك (18 ديسمبر 2015) وعن احترامه لـ«الأسهم» الإيرانية في سوريا، قال الرئيس: «أعتقد أن الأسد سوف يضطر للمغادرة من أجل وقف إراقة الدماء (...) لكن الآن، هل هناك طريقة تسمح لنا ببناء جسر يؤدي إلى انتقال سياسي يتيح لحلفاء الأسد، أي الروس والإيرانيين، أن يضمنوا الحفاظ على مصالحهم في سوريا، وأن الأقليات، كالعلويين، لن يتعرضوا لانتقام أو سحق (...)؟ أعتقد أن هذا سيكون مهمًا جدًا».
هذه العبارات تعني ببساطة ترك الأسد حاكمًا من أجل إبقاء الإيرانيين مطمئنين.
في كتابه «حروب إيران» يقول جاي سولومون: «بعث أوباما برسالة إلى المرشد الأعلى علي خامنئي يبلغه فيها بأنه لن يستهدف الأسد»، ويقول في مكان آخر: «أبلغنا مسؤولون في وزارة الدفاع بأنهم قلقون من أن العمليات في سوريا يمكن أن تقوّض المفاوضات النووية مع إيران». يعود محدثي إلى القول: «باختصار فإن الصفقة النووية مع إيران لم تكن لتحديد كمية اليورانيوم المخصب، أو تفتيش المنشآت النووية فقط، بل كانت أيضًا حول الحرب في سوريا، حيث وافقت الولايات المتحدة على عدم التدخل، وسمحت لإيران بأن تحمي (أسهمها) في سوريا بأي وسيلة بشعة تراها مناسبة».
يؤكد أن سياسة أوباما لم تكن تقصيرًا في الرؤية السياسية، ذلك أن الأموال التي تلقتها إيران عبر الصفقة، إضافة إلى مبلغ 1.7 مليار دولار كفدية عن الرهائن الأميركيين، ساعدتها في حربها بسوريا ضد الشعب السوري.
وماذا الآن؟ يقول: «بشكل محدد، يعتبر الأسد ودائرته الخاصة الممر الوحيد لتثبيت نفوذ إيران في سوريا، أما روسيا فترى في الديكتاتور السوري ورقة مساومة في صراعها مع الولايات المتحدة، هي مستعدة للتخلي عنه، إذا وافقت واشنطن على إعادة النظر في موقفها من أوكرانيا والعقوبات الاقتصادية على روسيا».
ينهي: «لا حل قريبًا في الأفق، ولننتظر الرئيس الأميركي المقبل».
*نقلاً عن "الشرق الأوسط"
** جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.