الحلقة الثامنة

mainThumb

14-07-2007 12:00 AM

مذكرات جورج تينيت «في قلب العاصفة» (8) ... ورقة «سي آي إي» التي أهملت: ضرورة التخطيط للعواقب السلبية لغزو العراق

 الحياة - 14/07/07//


 من أعظم الألغاز بالنسبة إليّ متى أصبحت بالضبط الحرب في العراق أمراً حتمياً.

في الفترة التي أعقبت 11/9، كما في الأشهر التي سبقته، كنت منهمكاً في الحرب على الإرهاب فحسب. ولم تكن ليالي الأرق في ذلك الوقت تتركّز على صدام حسين، فقد كانت «القاعدة» تشغل كوابيسي - ليس حول ما إذا كانوا سيضربون ثانية وإنّما كيف. كنت أفكّر في ما يمكن أن نفعله لتأخير أو إحباط أو - إذا قدّر الله - تجنّب أي هجوم. وبالعودة إلى الوراء، ليتني كنت أستطيع أن أخصّص قدراً مساوياً من الطاقة والاهتمام للعراق. فقد كان العراق يستحقّ المزيد من وقتي بالنظر إلى كل الأخطاء التي ارتُكبت في ما بعد. لكنّ الواقع أنّني لم أر?Z القطار قادماً باكراً كما كان يجدر بي.

الأمر لا يتعلّق بعدم وجود حديث عن ذلك منذ بداية إدارة بوش، فكثير من المسؤولين الكبار القادمين كانوا منخرطين كثيراً في العراق عندما كانوا في الحكومة آخر مرة. وقبل التنصيب بفترة قصيرة، طلب ديك تشيني من وزير الدفاع المغادر وليام كوهين تقديم إطلاع كامل للرئيس المقبل عن العراق والخيارات المطروحة. وكان من الطبيعي والملائم بالنسبة إليّ إطلاع الرئيس على ما استمرّ مشكلة شائكة للولايات المتحدة. كانت أطقمنا الجوية التي تراقب منطقتي حظر الطيران في العراق معرّضة لمخاطر متزايدة، في حين كانت العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة على العراق تتآكل بانتظام.

< كان اهتمام بعض المسؤولين الكبار لدى بوش بالعراق سابقاً على قدوم الإدارة، فقد كان بول وولفوفيتز ودوغلاس فايث وريتشارد بيرل من بين الثمانية عشر شخصاً الذين وقّعوا رسالة علنية من مجموعة تدعى «مشروع القرن الأميركي الجديد» تدعو إلى اطاحة صدام. وغالباً ما يُنسى أنّ تغيير النظام في العراق كان السياسة المعلنة صراحة لإدارة كلينتون، وهدف قانون تحرير العراق الذي أقرّه الكونغرس سنة 1998. وخصّصت مئة مليون دولار لوزارة الخارجية لإنفاقها على السعي إلى إنهاء نظام صدام. وبرزت هذه السياسة في أعقاب فشل برنامج العمل السري عام 1996 وأعلن عنها أمام العالم. والأهم من ذلك الإعلان عن نية الحكومة الأميركية إحداث تغيير في النظام في بغداد أمام شعب العراق الذي طالت معاناته. وظلّ التعهّد الأميركي بإطاحة صدّام القانون المعمول به في البلاد منذ أواسط ولاية كلينتون الثانية إلى أن غزت القوات الأميركية العراق في آذار (مارس) 2003.

في 7 شباط (فبراير) 2001، بعد أكثر من أسبوعين بقليل على تسلّم الإدارة الجديدة مهماتها، ترأست كوندوليزا رايس اجتماعاً للجنة المديرين في البيت الأبيض تركّز على العراق. وناب عنّي في ذلك اليوم نائبي جون مكلوغلن. وعلى غرار الاجتماعات في الأيام الأولى من إدارة بوش، بدا أنّ هذا الاجتماع يرمي إلى جمع المعلومات وتعيين المهمات البيروقراطية بحيث يمكن في ما بعد صوغ السياسة العريضة للحكومة.

تراجع موضوع العراق إلى الخلف في ذلك الربيع والصيف - بالنسبة إليّ على الأقل - إذ كانت هناك قضايا عدة تشغل اهتمامي. فإرغام الصين طائرة البحرية «إ. ب – 3» على الهبوط في نيسان (أبريل)، وهي حادثة طواها النسيان الآن تقريباً، تسبّب في أحد عشر يوماً من الاهتمام الشديد. كما قضيت جزءاً كبيراً من أوائل حزيران (يونيو) في الشرق الأوسط أحاول التوصّل إلى خطة لإقرار الوضع الأمني بين الإسرائيليين والفلسطينيين. لكن صدام لم يُهم?Zل، ففي مديرية العمليات التابعة لنا، كانت مجموعة عمليات العراق تعد خططاً لأي عمليات سرية ربما تطلب داخل العراق أو على أطراف البلد. وفي آب)أغسطس) 2001، عيّنا رئيساً جديداً لمجموعة العمليات العراقية (لا يمكنني تسميته لأنّ اسمه لا يزال خاضعاً للسرية). وهو ضابط كوبي - أميركي فصيح وعاطفي وذكي ولبق، وكان يقول إنّه موجود في هذا البلد نتيجة عمل سري أميركي فاشل، خليج الخنازير، وأنّه لا ينوي أن يقود فشلاً آخر. وللتحقّق من عدم حدوث ذلك، أجرى مراجعة للدروس المستفادة من تاريخنا الطويل غير المفرح جداً في تنفيذ العمليات ضدّ العراق منذ نهاية حرب الخليج في سنة 1991. وكانت الرسالة الرئيسة المستقاة من المراجعة أنّه لا يمكن إزاحة صدام من طريق العمل السري وحده. وبقدر ما كان بعضهم يرغب في «خداع نظيف» - حل سريع وسهل وغير مكلف لتغيير النظام في العراق - فإنّ ذلك لن يحدث.

استنتج عدد من المسؤولين الحكوميين الكبار والعلماء في وسائل الإعلام في أوائل سنة 2002 أنّ الـ «سي آي إي» غير راغبة في تولّي مهمّة صعبة للغاية. ولم تكن الحال كذلك. بل إنّ تحليلنا توصّل إلى أنّ صدام حسين عميق الجذور وأنّ لديه الكثير من الطبقات الأمنية المحيطة به بحيث ليس من السهل إزاحته. وكلما تحدّثنا إلى العراقيين، الوافدين أو الذين لا يزالون يعيشون تحت حكم صدام، كان ردّ الفعل الدائم: «أنتم في الـ «سي آي إي» تقولون إنّكم تريدون التخلّص من صدام. أنتم وأي جيش؟ إذا كنتم جادّين في هذا الشأن، فإنّنا نريد أن نرى الجنود الأميركيين على الأرض».

تغيّر كل شيء في أعقاب 11/9 . فأصبح يُنظر إلى الكثير من قضايا السياسة الخارجية من خلال موشور الدخان المتصاعد من مركز التجارة العالمي والبنتاغون. وأصبح العراق بالنسبة إلى كثيرين في إدارة بوش عملاً لم يتمّ إنجازه. فاستغلّوا التأثير العاطفي لهجمات 11/9 وخلقوا علاقة نفسية بين الفشل في اتخاذ إجراء حاسم ضدّ «القاعدة» والخطر الذي تشكّله برامج أسلحة الدمار الشامل في العراق. كانت الرسالة: لا يمكننا تحمّل مفاجأة ثانية. وفي حالة العراق، إذا تآكلت العقوبات ولم يجرِ عمل شيء (ولم يكن لدى المجتمع الدولي صبر طويل للمحافظة على العقوبات إلى أجل غير محدّد)، فقد نستيقظ ذات يوم لنجد أنّ صداماً يمتلك سلاحاً نووياً، وستتخذ عندئذٍ قدرتنا على التعامل معه شكلاً مختلفاً تماماً. ومما يؤسف له أنّ هذا التسلسل للأفكار قاد أيضاً إلى خطاب مفرط في الشدّة ومضلّل، مثل القول إنّنا لا نريد أن يصدر «مدفعنا المنطلق سحابة نووية».

لم يُجْر?Z أي نقاش جادّ أعرف به داخل الإدارة عن مقدار قرب التهديد العراقي. ولم يُثر أي بحث مهمّ أيضاً يتعلّق بتعزيز الاحتواء أو تكاليف مثل هذا النهج وفوائده مقابل التخطيط الكامل لتغيير النظام علناً أو سراً. وبدلاً من ذلك، بدا أنّ الولايات المتحدة لم تقم بما يكفي لوقف «القاعدة» قبل 11/9 ودفعت ثمناً باهظاً. لذا، كما مضى التعليل، لا يمكننا أن نسمح لأنفسنا بأن نكون في موقف مماثل في العراق.

تحدّثت أخيراً مع مسؤول عسكري كبير اتفق أنّه كان في أوروبا عند وقوع هجمات 11/9. بعد جهد لتأمين رحلة العودة إلى الولايات المتحدة، تمكّن من التوجّه إلى القاعدة الأميركية في مايلدنهول في إنكلترا، حيث قابل مصادفة مسؤولاً كبيراً آخر عالقاً موقّتاً، دوغلاس فايث. وقد ركبا على متن طائرة صهريج لسلاح الجوّ، وهي من الطائرات القليلة التي سمح لها بعبور المجال الجوي الأميركي المغلق. في أثناء الرحلة، أبلغ الضابط العسكري فايث أنّ «القاعدة» هي المسؤولة عن هجمات اليوم السابق وأنّه يجب القيام بحملة واسعة ضدّها بدءاً من أفغانستان. ومما أدهشه أنّ فايث تحدّث عن أنّ الحملة يجب أن تقود إلى بغداد على الفور، وقد خالفه المسؤول العسكري الكبير بقوة.

وفي أثناء الاجتماعات في كامب ديفيد في عطلة نهاية الأسبوع التي تلت الهجمات الإرهابية، ركّز بول وولفوفيتز على وجه الخصوص على مسألة إدخال صدام في الردّ الأميركي، وتحدّث عن العراق في إطار الإرهاب فحسب، ولا أذكر أي إشارة إلى أسلحة الدمار الشامل. استمع الرئيس إلى آراء وولفوفيتز، لكن بدا لي أنّه استبعدها بسرعة، وكذلك أنا. ولم يبدُ رامسفيلد مستغرقاً في الصلة العراقية مثل نائبه، ولم يدل بدلوه في النقاش بأي طريقة ذات مغزى. وعندما أجري تصويت غير رسمي على إدخال العراق في خططنا للردّ الفوري، صوّت المديرون ضدّه بأربعة أصوات مقابل لا شيء، وامتنع رامسفيلد عن التصويت. -->

أخبرني أحد كبار خبراء الشرق الأوسط في الـ «سي آي إي» أخيراً عن اجتماع حضره في البيت الأبيض بعد أيام على 11/9 . فقد أبلغه مسؤول كبير في مجلس الأمن القومي أنّ الإدارة تريد التخلّص من صدام. وقال محلّلنا: «إذا كنتم تريدون أن تلاحقوا ابن (...) لتسوية الحسابات معه، فعلى الرحب والسعة. لكن لا تقولوا لي إنّ له صلة بهجمات 11/9 أو بالإرهاب، إذ لا يوجد أي دليل يدعم ذلك. يجب أن يكون لديكم سبب أفضل».

لم يمضِ وقت طويل حتى بدأ موظفو مجلس الأمن القومي باستضافة سلسلة أخرى من الاجتماعات تضمّ ممثّلين عن وزارتي الخارجية والدفاع ورؤساء الأركان المشتركة ومكتب نائب الرئيس. لم تكن لهذه الاجتماعات تسمية رسمية، لكنّها كانت تدعى بصورة غير رسمية اجتماعات «المجموعة الصغيرة». كانت هذه الاجتماعات تعقد عادة مرتين في الأسبوع الى مائدة الغداء، وكانت غير مثمرة في شكل محبط من وجهة نظر من يحضرونها. وبعد فترة، بدأ مكلوغلن يُحضر معه محلّلين كباراً وضباط عمليات من الـ «سي آي إي» ليجلسوا في المقعد الخلفي. وبعد ذلك أقلع عن الحضور وطلب ممن يليه التقدّم إلى المقعد الأمامي.

عند الحديث لاحقاً مع من كانوا يحضرون الاجتماعات، أُخبرت بأنّ تلك الجلسات كانت تبدو غريبة. كانت تتمّ الإشارة دائماً إلى قرار رئاسي بالذهاب إلى الحرب في مجلس الأمن القومي بعبارات افتراضية، كما لو أنّه لا يزال معلّقاً والمجتمعون يبحثون في الظروف الطارئة. وفي بعض الأحيان كانت تدور مناقشات طويلة في شأن تفاصيل غامضة مثل «كم من الوقت يلزم بعد بدء الحرب لاستبدال العملة العراقية»، و «ما الصورة التي يجب وضعها على الدينار». كانت العملة تحمل صورة صدام. ولم يستطع أحد أن يتذكّر مناقشة أية مسألة مركزية في أي من تلك الاجتماعات. هل من الحكمة الذهاب إلى الحرب؟ هل هي العمل الصواب الذي نقوم به؟ كان جدول الأعمال يتركّز فقط على الإجراءات التي يجب اتخاذها إذا اتخذ قرار الهجوم لاحقاً.

لم يكن هناك أي شكّ في النتيجة العسكرية، لكن لم يجرِ النظر كثيراً، على حدّ علمي، في الصورة الكبيرة لما يمكن أن يحدث بعد ذلك. كان بعض صنّاع السياسة متلهّفين للقول إنّنا سنلقى الترحاب كمحرّرين، لكنّهم لم يذكروا أنّ مجتمع الاستخبارات أبلغهم أنّ مثل هذا الترحاب لن يدوم سوى فترة محدودة، وأنّ الوضع يمكن أن يتدهور بسرعة ما لم نؤمّن بيئة آمنة ومستقرّة بسرعة.

إضافة إلى اجتماعات «المجموعة الصغيرة» في البيت الأبيض، استضاف البنتاغون اجتماعات مماثلة يشار إليها باسم اجتماعات «المجموعة التوجيهية التنفيذية»، ويحضرها على العموم مسؤولو الطبقة الأولى من دون الذين يحضرون اجتماعات «المجموعة الصغيرة». لكن التقارير التي كانت ترد إلى مقرّ قيادة الـ «سي آي إي» كانت تفيد أيضاً بأنّ الاجتماعات تبدأ بالحديث عن الإجراءات التي يجب اتخاذها «إذا ذهبنا إلى الحرب»، وسرعان ما تنتقل إلى ما الذي يجب أن يحدث «عندما نذهب إلى الحرب»، من دون التوقّف في النقاش عند «هل نذهب إلى الحرب».

في السنتين الماضيتين، سألت أشخاصاً كانوا في مناصب كبيرة في الـ «سي آي إي» في ذلك الوقت: «متى عرفتم على وجه التأكيد أنّنا ذاهبون إلى الحرب في العراق»؟ وجاءت الإجابات غنية بالمعلومات. كان لدى الذين يعملون في حشد الدعم للجيش الأميركي شعور مبكّر من إدارة بوش بأنّ الحرب حتمية.

قال ريتشارد هاس، مدير تخطيط السياسات السابق في وزارة الخارجية إنّ كوندوليزا أخبرته في تموز (يوليو) 2002 بأنّ «القرارات اتخذت»، وأنّ الحرب نتيجة حتمية ما لم يذعن العراق لكل مطالبنا.

في أيار (مايو) 2002، سافر نظيري في بريطانيا، السير ريتشارد ديرلوف، إلى واشنطن إلى جانب ديفيد ماننغ، مستشار الأمن القومي لرئيس الوزراء البريطاني بلير في ذلك الوقت، لمعرفة موقف واشنطن من العراق. اجتمع السير ريتشارد مع رايس وهادلي وليبي وعضو الكونغرس بورتر غوس الذي كان في ذلك الوقت رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب.

وذكر ديرلوف أنّ ثمة خلافاً مهذّباً ولكن مهماً وقع مع سكوتر ليبي الذي كان يحاول إقناعه بوجود علاقة بين العراق و «القاعدة». وكان رأي ديرلوف الذي تمسّك به بقوّة، استناداً إلى التقارير الصادرة عن جهازه، وهي تقارير تشاركها مع الـ «سي آي إي»، أنّ اتصالات جرت بين الطرفين لم تسفر عن شيء وأنّه ليست هناك علاقة رسمية. وكان يعتقد أنّ المجموعة المحيطة بنائب الرئيس تتلاعب بالأدلة. ورأى أنّ الأمر لم يكن يتعلّق بـ «تجهيز» المعلومات الاستخبارية نفسها وإنّما بالطريقة غير المنضبطة التي تستخدم بها تلك المعلومات.

في مذكّرة أرسلها دوغلاس فايث، وكيل وزارة الدفاع للسياسات، إلى جون مكلوغلن في 6 أيلول 2002، مرّر برقية تلخّص تعليقاته على مؤتمر عقد في برلين وحضره مسؤولون أميركيون وبريطانيون وفرنسيون وألمان. وتنقل البرقية عن فايث أنّه أبلغ الجمع بأنّ «الحرب ليست اختيارية. فبقاء الولايات المتحدة كمجتمع منفتح وحرّ معرّض للخطر». ومضت الخلاصة إلى القول إنّ فايث أبلغ زملاءه بأنّ العمل الأميركي يستند إلى الدفاع عن النفس. لذا، في ما يتعلّق بالعراق، لا تعتبر مسألة إثبات صلة العراق بهجوم 11 أيلول (وأكرّر لا) «أمراً جوهرياً». ويبدو أنّ أحد الحاضرين الأجانب وافقه الرأي قائلاً إنّ علينا ألا نعلق في «التمسّك بحرفية القانون في شأن الدليل الواضح على التهديد الوشيك»، بالنظر إلى تاريخ صدام في الخداع.

فيما كنّا في الـ «سي آي إي» نركّز اهتمامنا على «القاعدة»، وكان العراق يستحوذ على اهتمام آخرين في الإدارة، بدا أنّ مجموعة فرعية ثالثة من الأشخاص تضع إيران نصب عينيها. وقد نبّهتنا إلى ذلك سلسلة غريبة من الأحداث. ففي أواخر كانون الأول (ديسمبر) 2001 ، أبلغ السفير الأميركي في إيطاليا، ملفين سمبلر، المسؤول الأول لـ «السي آي إي» عن إيطاليا أنّ مايكل ليدين، وهو ناشط أميركي محافظ، موجود في روما إلى جانب مسؤولين من وزارة الدفاع، يتحدّثون مع الإيطاليين عن اتصالات سرية مع الإيرانيين. وكان ليدين برز كثيراً في فضيحة إيران كونترا في الثمانينات. وهو الذي عرّف منوشهر غوربانيفار، الوسيط الإيراني المحافظ والمزوّر، على أوليفر نورث. وكانت مهمّة ليدين الأخيرة بمثابة خبر جديد بالنسبة إلينا.

بعد أسابيع، في 14 كانون الثاني 2002، وصل الى واشنطن ممثل كبير عن الاستخبارات الإيطالية وزارني. سألني عما أعرف عن استكشاف مسؤولين حكوميين أميركيين سبل الاتصال بالإيرانيين. نظرت إلى الأعضاء الآخرين في أركاني المشاركين في الاجتماع. واتضح أنّه لم يكن أحد منّا يعرف ما الذي يتحدّث عنه. فغيّر الإيطالي الموضوع بسرعة. -->

في 1 شباط (فبراير) 2002، أبلغ السفير سمبلر كبير ضباطنا في إيطاليا أنّه يتلقّى أسئلة من وزارة الخارجية عن زائر?Zيْن من وزارة الدفاع، تبيّن أنّهما لاري فرانكلين وهارولد رود من أركان دوغلاس فايث. وقال السفير إنّ ثمة تقارير عن أنّ الرجلين يتحدّثان عن برنامج بقيمة عشرين مليون دولار لدعم الإيرانيين الذين يعارضون نظام طهران. ما زلنا لا نملك أية فكرة عن هذا البرنامج، لكن بدا ما سمعنا عنه كأنّه برنامج عمل سري غير مدوّن في السجلات يسعى إلى زعزعة استقرار الحكومة الإيرانية. ومثل هذا البرنامج قد يكون غير قانوني من دون الصلاحيات المناسبة المعطاة من الرئيس، والتي يتمّ منحها عبر الـ «سي آي إي» عادة، ومن دون إشعار الكونغرس. وبدأ ذلك يتخذ مظهر كونه «ابن إيران - كونترا».

تناولت الهاتف واتصلت بستيف هادلي وسألته عما يجري. بدا أنّ هادلي يعرف شيئاً عن المبادرة. وذكّرني بأنّه أشار أمامي في أوائل كانون الأول 2001 الى أنّ وزارة الدفاع قد تجتمع مع ايرانيين في أوروبا لديهم معلومات عن تهديدات إرهابية. هذا صحيح، لكن، لم يرد ذكر أي شيء كهذا؛ لم يبحث أمر ليدين وغوربانيفار، أو المعارضة الإيرانية. وأذكر أنّني انزعجت من الحديث السابق ولم أفهم لماذا لم يطلب من الـ «سي آي إي» الضلوع في ذلك في شكل مباشر. لكن، إذا كانت هناك معلومات متوافرة عن تهديد للمصالح الأميركية، فإنّني لن أدع الأسباب البيروقراطية تقف في طريق حصولنا على التفاصيل، لكن ما أسمعه الآن مختلف تماماً. وسألني هادلي عما اذا كان بول وولفوفيتز اتصل بي من قبل لشرح ذلك. وكان جوابي: لا.

أرسل ستيف إليّ مذكّرة تلقاها من مايكل ليدين مؤرّخة في 18 كانون الثاني 2002. وفيها يتحدّث ليدين عن كيفية ترتيب اجتماع مع مسؤولين إيرانيين «معارضين بعنف للنظام». وتحدّثت أيضاً عن أنّ المسؤولين في البنتاغون اقترحوا أن تخضع مبادرة العمل مع هؤلاء الأشخاص «لإدارة العاملين في وزارة الدفاع في شكل كامل» وأنّ «الإيرانيين أوضحوا عدم رغبتهم التامة في التعامل مع أحد من الـ «سي آي إي»، لكنّهم مرتاحون تماماً مع المسؤولين في البنتاغون».

ثار غضبي. ألا يذكر هؤلاء الأشخاص الماضي؟ اتصلت بهادلي بعد مراجعة مذكّرة ليدين. قلت: «ستيف، هذه العملية بأكملها تثير الشبهات». وأتبعت ذلك بمذكّرة كتبتها إليه في 5 شباط 2002 أوصي فيها بقوّة بأن يتولّى زمام المسألة.

عندما علم كولن باول بالأمر استشاط غضباً. وكان باول أصبح مستشار الأمن القومي في سنة 1987 لتنظيف فوضى إيران - كونترا، ولا يريد أن يتعامل مع قضية أخرى. اتصل باول بكوندوليزا رايس وأبلغها ضرورة تسوية هذه القضية على الفور، وأنّه سيرفع الأمر إلى الرئيس مباشرة إذا لم يتمّ ذلك.

أبلغ هادلي في منتصف شباط جون مكلوغلن بأنّ الوضع حلّ وأنّ ليدين لم يعد في الصورة، وطلب جون رداً خطياً على ملاحظتي السابقة، لكن لم نتلقّ شيئاً قطّ.

في 11 تموز 2002، أخبر السفير في إيطاليا ضابطاً كبيراً في الـ «سي آي إي» أن ليدين اتصل به ليقول إنّه سيعود إلى روما في الشهر المقبل «ليكمل ما بدأه». التقى ممثّلنا في روما بنظرائه الإيطاليين وطلب منهم عدم تقديم أي مساعدة إلى ليدين ما لم يطلب السفير أو الـ «سي آي إي» ذلك. واتصل محام كبير في الـ «سي آي إي» بنظيره في مجلس الأمن القومي وسأل عما إذا كان أحد في مجلس الأمن القومي أجاز الزيارة التي يقوم بها ليدين. فإذا لم يكن كذلك، فإنّه قد يكون على الـ «سي آي إي» أن تقدّم «تقريراً جرمياً» إلى وزارة العدل، وذلك مطلوب عندما نعرف معلومات عن انتهاك للقانون.

بعد نحو أسبوعين، اتصل محامي مجلس الأمن القومي ليقول إنّ ستيف هادلي استدعى ليدين و «قرأ عليه قانون الإخلال بالأمن» وطلب منه «التوقّف»، وفي ضوء ذلك لا يرون أي ضرورة لتقديم تقرير جرمي.

ثمة سلسلة من التحقيقات بإيحاء من ليدين جاءت من دون ترتيبات مسبقة عبر الكونغرس والبيت الأبيض ووزارة الدفاع وغيرها. والخيط المشترك بينها أنّ لديه معلومات ملحّة وحسّاسة جداً ويودّ التحدّث عن مكافأة. لكن هذه المعلومات لم تفضِ إلى شيء.

في 8 آب 2003 تسرّبت أنباء إلى وسائل الإعلام عن اجتماعات ليدين وغوربانيفار السابقة مع مسؤولين في البنتاغون، ربما لبحث تغيير النظام في إيران. أقرّ مسؤولون في البيت الأبيض ووزارة الدفاع بحدوث بعض الاجتماعات، لكنّها لم تؤدّ إلى شيء. اتصلت بكوندوليزا رايس وحثثت موظفي مجلس الأمن القومي على كشف خبايا المسألة. وقلت: «إذا لم تفعلوا، فسينتهي ذلك على مكتب الرئيس، وسيتحمّل الملامة». ذكرت كوندوليزا أنّه بعد الاجتماع الأول في روما، التقى مسؤولو وزارة الدفاع الإيرانيين مصادفة في باريس في أثناء عبور شارع أو شيء من هذا القبيل. فقلت: «كوندي، في مثل هذا العمل لا يوجد شيء اسمه اجتماع عر?Zضي».

في وقت لاحق من ذلك الشهر، في أحد الاجتماعات الأسبوعبة لمجلس الأمن القومي، أثرت ثانية مخاوفي مما يحدث وأنّ على مجلس الأمن القومي كشف خبايا الأمر. وكرّرت أمام ستيف هادلي أن لا نية لدينا للاجتماع بغوربانيفار، فقد أصدرت الـ «سي آي إي» «إشعاراً بالحرق» (إعلاناً رسمياً بأنّ مصدراً ما غير ذي جدوى) في شأنه قبل نحو عشرين سنة، وليس لدينا أي سبب يدعونا إلى مراجعة رأينا في صدقيته. وفتحت وزارة الدفاع تحقيقاً في الاتصالات بين موظفيها وغوربانيفار، لكنّني لم أعرف نتيجته.

في صيف وخريف 2002، طلب مجلس الأمن القومي من جون مكلوغلن أن تجمع الوكالة معلوماتها الاستخبارية عن برامج أسلحة الدمار الشامل لدى صدام وسجلّه في حقوق الإنسان، وإجمال ما نعتقد بأنّه صلة العراق بالإرهاب. احتدم الجدال العامّ فيما كانت هذه الجهود تتمّ في الخلفية. ففي 15 آب 2002، نشر برنت سكوكروفت، مستشار الأمن القومي لدى الرئيسين فورد وبوش الأول، ورئيس المجلس الاستشاري للاستخبارات الخارجية لدى جورج دبليو بوش، مقالة في صفحة الرأي في صحيفة «وول ستريت جورنال» بعنوان «لا تهاجموا صدام حسين». وفي المقالة رأى سكوكروفت أنّ الهجوم سيصرف اهتمام الولايات المتحدة عن الحرب على الإرهاب. لا عجب في أنّ هذه النصيحة لم تستقبل بالترحاب في «1600 جادة بنسلفانيا». ومع انضمام أصوات معتدلة إلى الجدال الداعي إلى الحذر في العراق، تعهّدت إدارة بوش في الاستماع بعناية الى آراء كل الأطراف، لكن بدا أنّ خطابها متقدّم جداً على المعلومات الاستخبارية التي نجمعها في لانغلي.

فقد فوجئت على سبيل المثال عندما قرأت عن خطاب نائب الرئيس تشيني الذي ألقاه أمام المحاربين القدامى في الحروب الخارجية في 26 آب، وفيه قال: «بكل بساطة، ليس هناك أدنى شكّ في أنّ صدام حسين يمتلك الآن أسلحة دمار شامل. وما من شكّ في أنّه يكدّسها لاستخدامها ضدّ أصدقائنا وحلفائنا وضدّنا». وقال نائب الرئيس لاحقاً في كلمته أمام المحاربين القدامى: «كثير منّا مقتنعون بأنّه (صدّام) سيحصل على أسلحة نووية عما قريب».

باغتني الخطاب أنا وكبار العاملين في الوكالة لأسباب عدة. أولاً، لم يرسل موظّفو نائب الرئيس الخطاب إلى الـ «سي آي إي» لإجازته، كما يتمّ عادة في الملاحظات التي يجب أن تستند إلى معلومات استخباراتية. والخطاب يتجاوز كثيراً ما يمكن أن تؤيّده تحليلاتنا. فقد كان اعتقاد أجهزة الاستخبارات أنّ العراق إذا ترك من دون ضابط ربما لن يحصل على أسلحة نووية إلا في أواخر العقد.

أظنّ أن الخطاب أمام المحاربين القدامى كان محاولة من نائب الرئيس لاستعادة الزخم باتجاه التحرّك ضدّ العراق بعد أن توقّف قبل أحد عشر يوماً نتيجة مقالة سكوكروفت. ولدي انطباع بأنّ الرئيس لم يكن على علم أكثر منّا بما سيقوله نائب أمام المحاربين القدامى إلى أن قاله. لكن إذا كان الخطاب يهدف أساساً إلى الدعوة لليقظة، فقد كان خطاباً مرتفعاً جداً.

بعد ظهر يوم الجمعة في 6 أيلول 2002، أي بعد مرور أسبوع على خطاب نائب الرئيس أمام المحاربين القدامى، اجتمع فريق الرئيس للأمن القومي في كامب ديفيد وقضى الليل هناك للمشاركة في الاجتماعات في شأن العراق في اليوم التالي. وقد أرسل موظفو مجلس الأمن القومي مسبقاً كتب اطلاع سميكة محشوّة بمعلومات عن خلفية الوضع ليقرأها المشاركون. وأدرجت صفحة في أوائل الكتاب الأمور التي تنجز بإزاحة صدام: تحرير الشعب العراقي، وإزالة أسلحة الدمار الشامل، ووضع حدّ لتهديدات العراق لجيرانه، وما شابه. -->

وفي منتصف الكتاب تقريباً، ثمة ورقة تبحث بعبارات عامة كيف يمكن التعامل مع العراق بعد إزاحة صدام. قالت الورقة إنّنا سنحافظ على قسم كبير من بيروقراطية العراق، ولكن سندخل إصلاحات عليها. وسرد أحد الملاحق على الحاضرين بعض الدروس المستقاة من احتلالي ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية. وفي نهاية الكتاب تقريباً، توجد ورقة أصدرها محلّلو الـ «سي آي إي» قبل ثلاثة أسابيع. وهي مؤرّخة في 13 آب 2002 وتحمل العنوان «العاصفة الكاملة: التخطيط للعواقب السلبية لغزو العراق». وقدّمت الورقة سيناريوات أسوأ حالة ربما تنشأ بعد مسعى تغيير النظام بقيادة أميركية. وتقول الخلاصة إنّه في أعقاب الغزو: ستواجه الولايات المتحدة عواقب سلبية في العراق والمنطقة وخارجها، وهي تشمل:

- الفوضى وتفكّك مناطق العراق.

- عدم استقرار يهدّد النظام في دول عربية رئيسة.

- تزايد الإرهاب العالمي ضدّ المصالح الأميركية تذكيه الكراهية الإسلامية العميقة للولايات المتحدة.

- انقطاعات كبيرة في واردات النفط وتوتّرات حادّة في تحالف الأطلسي.

من المغري الاستشهاد بهذه المعلومات والقول: «أترون، لقد توقّعنا الكثير من المصاعب التي حدثت لاحقاً» - لكن القيام بذلك سيكون مراوغة. فغالباً ما تكون الحقيقة أعقد مما هو ملائم. فلو كنّا شعرنا بقوّة بأنّ هذه هي النتائج المرجّحة، لرفعنا الصوت في الإعلان عن استنتاجاتنا. ولم يحدث في الواقع أي صراخ أو ضرب على الطاولة. بل قلنا إنّ هذه أسوأ حالة. كما أنّنا سميناها بدقّة «سيناريوات». فلم يكن لدينا أي طريقة نعرف من خلالها كيف سيتطوّر الوضع في العراق على الأرض. ولم نكن على علم ببعض الأعمال التي ستقوم بها الولايات المتحدة في المستقبل وتساعد في جعل سيناريوات أسوأ حالة أمراً محتوماً.

يوم الأحد في 14 أيلول، عقد ستيفن هادلي اجتماعاً في غرفة الأوضاع في البيت الأبيض حضره مسؤولو الصف الثاني في مجلس الأمن القومي ووزارتي الخارجية والدفاع والـ «سي آي إي». وكان عنوان جدول الأعمال: «لماذا العراق الآن؟» وكان بوب ولبول، ضابط الاستخبارات القومية للبرامج الاستراتيجية بين الحضور، ويذكر أنّه أبلغ هادلي بأنّه لن يستخدم أسلحة الدمار الشامل لتبرير الحرب على العراق. فعمد أحدهم، ولم يكن يعرفه في ذلك الوقت لكنّه يعرف الآن بأنّه سكوتر ليبي، إلى الميل نحو مشارك آخر في الاجتماع والسؤال: «من هذا الشخص»؟

أوضح ولبول لهادلي أنّ الكوريين الشماليين متقدّمون على العراق في كل فئة من فئات أسلحة الدمار الشامل. وكان بوب يعرف أنّنا اكتشفنا برنامج بيونغيانغ السري لإنتاج يورانيوم عالي التخصيب، واستنتجنا في شكل صحيح أنّ ذلك سيصبح معروفاً على الملأ في القريب. وأبلغ المجموعة: «عندما يذاع ذلك، ستواجهون أوقاتاً عصيبة في تفسير لماذا أنتم أشدّ قلقاً في شأن بلد ربما يعمل على الأسلحة النووية بدلاً من البلد الذي ربما يمتلكها بالفعل ويمتلك الوسائل اللازمة لإطلاقها على الولايات المتحدة».

اقترح أحدهم أنّ التواطؤ مع الإرهاب يجعل العراق تهديداً أكبر. وتحدّث محلّلان حاضران من الـ «سي آي إي» فقالا إنّه يمكن تقديم حجّة على دعم إيران الإرهاب الدولي أقوى بكثير من الحجّة التي يمكن س?Zوْقها بالنسبة إلى العراق. ويذكر كلاهما أنّ دوغلاس فايث قال إنّ اعتراضاتهما مجرّد «اهتمام بالتفاصيل».

* تصدر الترجمة العربية للكتاب عن دار الكتاب العربي في بيروت آخر هذا الشهر
 
نقلا عن // الحياة //


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد