الحلقة الخامسة

mainThumb

12-07-2007 12:00 AM

مذكرات جورج تينيت «في قلب العاصفة» (5) ... مشرّف يحمي الملاّ عمر وعبدالله الثاني يعرض ضرب «القاعدة» عسكرياً في أفغانستان

 

 الحياة - 11/07/07//
 

في 12 كانون الأول (ديسمبر) 2000 ، قرّرت المحكمة العليا الأميركية، بتصويت 5 مقابل 4 ، أنّ جورج بوش هو الرئيس المقبل للولايات المتحدة. وإذا كنتم تصدّقون بعض منتقديّ، فإنّني كنت أعرف النتيجة قبل نحو سنتين، عندما أعيدت تسمية مقرّ قيادة السي آي إي لتصبح «مركز جورج بوش للاستخبارات»، نسبة إلى والد جورج دبليو.

من المرجّح أن يرغب أي من المرشّحين في تعيين مدير استخبارات مركزية خاص به، لكن إذا تغيّر الحزب الموجود في السلطة إلى جانب الرئيس فستكون احتمالات ذهابي أكبر. لقد تقبّلت الفكرة عقلياً، لكنّني كنت أريد البقاء قلبياً لأنّني أشعر بأنّ عملي لم يكتمل. وعندما أصدرت المحكمة العليا قرارها لمصلحة جورج دبليو بوش، شعرت بأنّ احتمالات رحيلي في 20 كانون الثاني (يناير) زادت.

كنت في وسط واشنطن دي سي، في أواخر كانون الأول، مسرعاً نحو أحد الاجتماعات عندما تلقّيت مكالمة من مساعدتي الخاصة دوتي. قالت دوتي أنّ ريتش هافر، الذي كان يتولّى الانتقال في الاستخبارات عن ديك تشيني، قدم للتوّ إلى مكتبي وأخذ يقيس المكان للستائر الجديدة. وألمح هافر بفرح إلى أنّ دونالد رامسفيلد، مرشد تشيني نفسه، سيصبح مدير الاستخبارات المركزية الجديد.

أذكر أنّني أخذت إجازة في آخر الشهر بحيث يمكن أن أقضي أنا وستيفاني وجون مايكل الميلاد مع أخي في مدينة نيويورك، ثم نتوجّه إلى بوسطن للاحتفال بليلة رأس السنة الجديدة مع أقرب صديقين شخصيين لنا، ستيف وجِرِل.

كنّا في الطريق بين الولايات عندما ورد الخبر من مقرّ القيادة بأنّه تم تعيين رامسفيلد ليكون وزيراً للدفاع، لا مديراً للاستخبارات المركزية.

أوضح الفريق الانتقالي لنا أنّ الرئيس يريد الحصول على إطلاع استخباري منتظم ستة أيام في الأسبوع، مثلما كانت الأمور في عهد والده. وقد انتقينا أحد مساعديّ التنفيذيين السابقين، مايك مورِل، ليكون المطلع الشخصي للرئيس. جلست في أول إطلاع بعد التنصيب لكنّني كنت أتوقّع أن يكون مورِل رجل اتصالنا اليومي الوحيد. وبعد اطلاعين من دون أن أكون حاضراً، انتحى الرئيس بمورِل جانباً وسأله، «هل يدرك جورج أنّني أودّ أن أراه هنا معك كل يوم»؟ لم أكن أرغب في الظهور كل يوم مخافة أن أبدو كأنّني أقوم بحملة للاحتفاظ بمنصبي. وظننت أنّه يكفي أن أحضر بين الحين والآخر. لكنّني تلقّيت الآن الرسالة جهاراً وبوضوح. لم يعد جدول مواعيدي وحياتي كما كانا من قبل. كان ذلك الأمر غير الملائم. امتدت ساعات عملي مدة أطول. وتقلّص وقتي في البيت ثانية. لكن لا يمكن إنكار الجانب المفيد لذلك. فللاتصال المباشر والمنتظم بالرئيس فائدة كبيرة في قدرة مدير السي آي إي على أداء عمله. (...)

بدأ فريق بوش متأخّراً على أي حال بسبب المأزق الانتخابي، وكانوا ينفرون كثيراً من أي سياسة تحبّذها إدارة كلينتون. وبدا العمل بطريقة مختلفة عن أسلافهم أمراً حتمياً بالنسبة إليهم.

كان لبطء حركة التغيير وجدول الأعمال الكامل، على الصعيدين الداخلي والدولي، أبلغ الأثر، في تقديري، في الحرب على الإرهاب. لم يكن الحال أنّهم لا يبدون اهتماماً بأسامة بن لادن أو القاعدة، أو أنّهم تخلّصوا ممن يهتمون به. فإذا استثنينا الصفّ الأول للحكومة الجديدة، فقد بقي فريق مكافحة الإرهاب بأكمله في مكانه. لكن حدث تراجع في الاستعجال لدى الطبقة العليا.

قبل 11 / 9 ، وجدت إدارة بوش نفسها في الموقف نفسه الذي أزعج إدارة كلينتون في ما يتعلّق بباكستان. فعلى رغم أنّ آلاف الإرهابيين يتدرّبون في معسكرات القاعدة في أفغانستان، فإنّ صنّاع السياسة انشغلوا بالاستقرار الداخلي في باكستان، والقيادة والسيطرة على أسلحتهم النووية، واحتمال وقوع نزاع نووي مع الهند. كانت هذه شواغل مشروعة بالطبع، لكنّ الإرهاب مشكلة خطيرة أيضاً. مع ذلك لم نتمكّن البتة، بسبب هذا التوتّر في السياسة، من الحصول على الضوء الأخضر من حكومتنا لتقديم مساعدة جادّة إلى أحمد شاه مسعود وتحالفه الشمالي في مساعيهم لاسترجاع أفغانستان من طالبان.

كان هناك جدال داخل السي آي إي أيضاً حول كيفية التعامل مع باكستان وطالبان والقاعدة. فإذا جلست في مركز مكافحة الإرهاب مع كوفر بلاك وفريقه، تجد الخيار واضحاً: يجب العمل على الفور لدعم تحالف الشمال.

غير أنّك إذا جلست في إسلام أباد، فسيبدو لك العالم مختلفاً جداً. أولاً، التحالف الشمالي يرعاه الهنود والروس منذ سنوات، وهم أعداء باكستان اللدودون. واصطفافنا مع مسعود ومقاتليه سيجعلنا في حلف مع الشيطان، من دون أن يعود علينا بمكسب كبير. فبغياب التدخّل العسكري الأميركي الكبير، لن يتمكّن هذا التحالف من إلحاق الهزيمة بطالبان. وإذا جعلنا التحالف تهديداً أكبر لطالبان، فسينتهي بنا الأمر إلى تعزيز حاجة طالبان إلى دعم القاعدة وبالتالي نقوّي موقف بن لادن في أفغانستان بدلاً من أن نضعفه.

كان وجود الجنرال محمود أحمد، رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الباكستاني في واشنطن عند وقوع هجمات 11 / 9 ، يرمز إلى هذه المشكلة. وقد اجتمعت به الى الغداء في 9 أيلول (سبتمبر) 2001 ، وحاولت الضغط عليه بخصوص الملا عمر، أكثر حماة بن لادن حماسة داخل نظام طالبان. أكّد لنا محمود أنّ الملا عمر يريد الأفضل للشعب الأفغاني. قلنا له حسناً، لكنّه يؤوي رجلاً أنشأ ملاذاً لتدريب الإرهابيين الذين يقتلون العاملين في السفارات الأميركية والبحارة الأميركيين. في الواقع، كان الدفاع عن الملا عمر أمراً معهوداً عنه. وقد أبدى الرجل لطفاً شديداً الى مائدة الغداء، لكنّه لم يتزحزح في ما يتعلّق بطالبان والقاعدة. بل كان مجرّداً من العاطفة والشعور أيضاً. بعد هجوم الانتحاريين التابعين لبن لادن على المدمرة الأميركية كول، أرسل محمود إلى كبير ضباطنا في إسلام أباد رسالة محدّدة الكلمات بالضبط نقلت تعازيه بالخسارة في الأرواح من دون التعرض ولو بكلمة تأييد واحدة الى ملاحقتنا القاعدة في عرينها الأفغاني.

الأهم من ذلك أنّ علينا الافتراض بأنّه وكيل دقيق لرئيسه الجنرال برويز مشرّف. كنّا نعرف أنّ محمود هو الذي حشد تأييد العناصر الحاسمة في الجيش الباكستاني لمشرّف عند انقلابه على رئيس الوزراء نواز شريف. بل إنّ محمود ضمن نجاح مشرّف. اعتقد بعضهم أنّ أفضل ما يمكن أن نأمل من أي منهما هو أن يتغاضى جهاز الاستخبارات الباكستانية عن أي أعمال نقوم بها في أفغانستان لملاحقة الأفغان العرب هناك. وفي حال عدم حصول ذلك، كان هناك دائماً فرصة لأن يقوم الأفغان وربما بعض المسؤولين في طالبان بالجهاد ضدّ القاعدة التي يغلب عليها العرب، لكنّ ذلك أيضاً بدا احتمالاً بعيداً. فقد أصبح العرب وبن لادن متوطّنين في أفغانستان عبر حيازتهم الممتلكات وسخائهم على قيادة طالبان. وكان اقتراح محمود الوحيد في الأيام الأولى من زيارته واشنطن محاولة رشوة المسؤولين الرئيسيين في طالبان لدفعهم إلى تسليم بن لادن، لكنّه أوضح مع ذلك أنّه لن يكون له أو لجهازه أي علاقة بهذا المسعى، ولا حتى بتقديم المشورة إلينا في شأن من نفاتحه بالأمر.

ربيع 2001 ، وفي أحد الاجتماعات، عبّر جون مكلوغلِن عن إحباطه من عدم اتخاذ أي إجراء. وقال، «أعتقد أنّ علينا أن نوجّه إنذاراً إلى طالبان. فإما أن يسلّمونا بن لادن وإما أن نمطرهم بالحمم والجحيم». تبع ذلك صمت غريب. وبدا أنّ الفكرة لم تعجب أحداً. اتصل ريتشارد أرمِتاج، نائب وزير الخارجية، بجون عقب الاجتماع وقدم نصيحة ودية: «ستنقطع حمّالة بنطلونك إذا واصلت تقديم توصيات لصنع السياسة. ذلك ليس دورك».

طوال عهدي مديراً للاستخبارات المركزية، في ظل الإدارتين، كنت أعقد أسبوعياً اجتماعاً خاصاً مع مستشار الأمن القومي. وبالعودة إلى الملاحظات المدوّنة عن تلك الاجتماعات، وجدت أنّ الإرهاب كان يحتل مرتبة متقدّمة في جدول أعمال كل الاجتماعات تقريباً، لكن لم يكن ذلك بقدر ما كان عليه في ربيع وصيف 2001 .

في اجتماعي العادي المقرّر في 30 أيار (مايو) مع كوندي رايس، أحضرت معي جون مكلوغلِن وكوفر بلاك وأحد مساعدي كوفر الكبار، ريتش بي. (لا يمكن تحديد هوية ريتش أكثر هنا). وانضمّ إلى كوندي ديك كلارك وماري مكارثي.

عرض ريتش علامات الإنذار المتزايدة على هجوم قادم. وكانت مخيفة حقاً. وأخبرنا كوندي أيضاً أنّ أحد ناشطي القاعدة الأشرار، أبي زبيدة، يعمل على خطط للهجوم.

سألت كوندي، «ما مقدار الخطر في اعتقادك»؟ أبلغها كوفر أنّه في أثناء الألفية بلغ وضع التهديد الإرهابي «ثمانية على مقياس من عشرة». أما الآن فإنّنا عند الدرجة «السابعة» تقريباً. وأبلغها كلارك بأنّه أصدرت إشعارات تحذيرية كافية إلى الهيئات الأميركية المعنية.

--> واصلت المعلومات عن أبي زبيدة في الظهور في أجزاء الاستخبارات المختلفة. ففي حزيران (يونيو) 2001 أبلغنا البريطانيون أنّ أبي زبيدة يخطّط لهجمات انتحارية بسيارات مفخّخة على أهداف عسكرية أميركية في المملكة العربية السعودية في آخر الشهر. وعلمنا من استجواب الـ «إف بي آي» لأحمد رسام، على سبيل المثال، أن أبي زبيدة طلب جوازات سفر كندية عالية الجودة لتهريب ناشطين إلى الولايات المتحدة. وأبلغ رسام، كجزء من المقايضة معه لتخفيف الحكم عليه، الـ «إف بي آي» بأنّ أبي زبيدة يدرس شنّ هجمات في مدن أميركية عدة. لم يقدّم رسام أي تفاصيل عن قنوات أميركية محدّدة، لكنّه قال إنّ أبي زبيدة يعمل على ذلك منذ مدة طويلة، وأنّه مستعد لقضاء سنة أو أكثر في الإعداد إذا كان ذلك يفضي إلى هجوم ناجح.

(عندما قبضنا على أبي زبيدة في باكستان في آذار 2002، أوحت بعض أخبار وسائل الإعلام بأنّه لم يكن لاعباً مهماً. وتلك الأخبار خاطئة تماماً. والأسوأ الإيحاء بأنّ إدارة بوش بالغت في أهميته في ملاحظاتها أمام وسائل الإعلام - وكان ذلك خطأ ثانياً. وأعتقد الى اليوم أنّ أبي زبيدة كان لاعباً مهماً في عمليات القاعدة).

أما بالنسبة إلى أيمن الظواهري، الزعيم السابق لحركة الجهاد الإسلامي المصرية الذي أصبح الساعد الأيمن لبن لادن، فقد علمنا انه ينسق أعمال الإرهابيين في المملكة العربية السعودية والشرق الأوسط.

ورسمت تقديرات استخبارية أخرى صورة مخطط لخطف أميركيين في الهند وتركيا وإندونيسيا. وقيل إنّ ذلك من عمل شخص متطرّف مصري منشقّ، رفعت طه موسى، مقيم في دمشق في ذلك الوقت. وكان موسى محتقراً في معظم العالم الإسلامي، حتى إنّه طُرد من إيران. وسمحت له سورية بالدخول بعد أن طردته بلدان عربية عدة، ثم اعتقلته بناء على معلومة قدّمناها. وكان موسى أصدر العديد من الفتاوى ضدّ الولايات المتحدة في الأشهر التي سبقت اعتقاله. وكان أيضاً قريباً من الشيخ الضرير، عمر عبد الرحمن، الذي ارتبط بالتفجير الذي جرى عام 1993 في مركز التجارة العالمي. كما أنّ موسى تقاسم المنصة مع بن لادن والظواهري في صيف 2000 . ولدينا صورة له جالساً بينهما.

--> في حزيران علمنا بإغلاق العديد من معسكرات الإرهابيين العرب في أفغانستان. وأفادت «الجزيرة» (وكانت مخطئة كما تبيّن) أنّ بن لادن سيغادر البلد خوفاً من ضربة أميركية توجّه ضدّه. وبثّت القناة الفضائية العربية «إم بي سي» مقابلة مع بن لادن ومساعديه الرئيسيين قال فيها إنّه ستقع «مفاجأة كبيرة» في الأسابيع القادمة و»ضربة قاسية للمصالح الأميركية والإسرائيلية». وأفادت الـ «إم بي سي» أيضاً أنّ قوات بن لادن في حال استنفار مرتفعة. وتحدّثت تقارير أخرى عن هجمات انتحارية وشيكة في الخليج. وكان ناشطو القاعدة يغادرون المملكة العربية السعودية للعودة إلى أفغانستان، ما سبّب قلقاً لنا، لأنّه، كما علمنا في أعقاب مهاجمة المدمّرة كول وتفجيرات شرق إفريقيا، فرّ المسؤولون قبيل وقوع الهجمات. وفي أفغانستان، قيل إنّ العرب يتوقّعون ما يصل إلى ثمانية احتفالات. وأبلغ الناشطون انتظار أخبار مهمة خلال أيام. وكان الظواهري يحذّر زملاءه في اليمن بأن يتوقّعوا التضييق عليهم ويحضّهم على الهرب.

وحضّت برقية موجّهة إلى محطاتنا وقواعدنا في العالم على اتخاذ إجراءات فورية لتحليل كل الخيوط التي تقود إلى المتطرّفين. وفي الولايات المتحدة كنا نعمل بدأب مع الـ «إف بي آي» للحصول على ما أمكن من اتصالات الإرهابيين واستغلالها. ويعني ذلك الذهاب إلى محكمة قانون مراقبة الاستخبارات الخارجية التي تنظر في طلبات الحكومة منحها صلاحيات مراقبة العملاء الأجانب داخل الولايات المتحدة. وكانت هذه المحكمة مسعفة جداً، مع ذلك اتضح بصورة متزايدة في أوائل تموز (يوليو) 2001 أنّه يجب إدخال تحسينات تشريعية إضافية لأنّ القوانين القائمة لا تمنحنا المرونة التي نحتاج إليها لنتمكّن من التغلّب على شبكة إرهابية تتسم بالمهارة وتزداد حنكة وتعقيداً.

أُغلقت السفارات الأميركية بناء على توصيتنا أو عُزّزت حمايتها. وغادرت سفن البحرية موانئ الشرق الأوسط وتوجّهت إلى عرض البحر. لا يسعني ثانية أن أقول ما الذي لم يحدث نتيجة لهذه التحذيرات وارتفاع مستوى الاستنفار الذي كنّا نذيعه، لكنّني مقتنع بأنّ صيف وخريف 2001 ربما كان أكثر كارثية - وانتشر سفك الدماء على نطاق أوسع بكثير - لو أنّنا تجاهلنا ما كنّا نسمعه أو استخففنا به.

في 10 تموز، وضع كوفر بلاك وريتش بي وفريقهما لمكافحة الإرهاب هذا التدفّق للتقارير في تقييم استراتيجي موحّد. وفي ذلك اليوم بعد الظهر، طلب كوفر الاجتماع بي. قدّم لي إطلاعاً جعل شعر رأسي ينتصب فزعاً بكل معنى الكلمة. وعندما فرغ، التقطت الهاتف الآمن الأبيض الكبير إلى يسار مكتبي - الهاتف الذي يصلني بكوندي مباشرة - وأبلغتها بأنّني في حاجة إلى رؤيتها على الفور لتقديم آخر المستجدّات عن تهديد القاعدة. لا أذكر أنّني طلبت مثل هذا الاجتماع العاجل في البيت الأبيض طوال سبع سنين من عملي مديراً للاستخبارات المركزية. حدّدت كوندي الموعد على الفور، وانطلقت أنا وكوفر وريتش إلى البيت الأبيض في رحلة بالسيارة تستغرق خمس عشرة دقيقة.

عندما وصلنا إلى مكتب كوندي، كان بانتظارنا ديك كلارك وستيف هادلي. وبدلاً من أن نجلس على الأريكة كما نفعل عادة في اجتماعاتنا الأسبوعية، طلبت أن نجلس حول طاولة اجتماعات كوندي ليتمكّن الجميع من متابعة المخطّطات المصاحبة للإطلاع. وكنت أعتقد أنّ الجوّ الأكثر رسمية والكراسي ذات الظهر القاسي ملائمة لما سيقال. أخرج ريتش رزم الإطلاع وبدأ. لفتت جملته الأولى انتباه الجميع لأنّها لم تترك أي مجال لسوء الفهم: «سيقع هجوم إرهابي كبير في الأسابيع أو الأشهر القادمة».

كان من المستحيل تحديد يوم معيّن. وأوضح ريتش: «إنّنا نعرف من الهجمات السابقة أنّ أسامة بن لادن لا يرتبط بتواريخ محدّدة للهجوم. لقد حذّر بن لادن من هجوم وشيك في أيار (مايو) 1998 ، لكن الهجمات ضدّ السفارات لم تنفّذ إلا في آب (أغسطس). فأسامة بن لادن يهاجم عندما يعتقد بأنّ الهجوم سينجح». غير أنّ الإرهاصات واضحة لا لبس فيها. وتابع ريتش، لقد وعد الزعيم الإرهابي الإسلامي الشيشاني الرئيسي «خطاب» قواته «بأنباء كبيرة جداً». وثمة مخطّط يعرض سبعة مقاطع محدّدة من معلومات استخبارية جمعت في الأربع وعشرين ساعة الماضية، وكلّها تتوقّع هجوماً وشيكاً. ومن بين البنود: المتطرّفون الإسلاميون ينتقلون إلى أفغانستان بأعداد كبيرة، وثمة مغادرة كبيرة لأسر الإرهابيين من اليمن. وأومأت إشارات أخرى إلى تهديدات جديدة للمصالح الأميركية في لبنان والمغرب وموريتانيا.

كان مخطّط ريتش الثاني يحتوي على ما نسمّيه في مصلحتنا «تحديد الفحوى»، وهو ملخّص للبيانات المخيفة التي حصلنا عليها من الاستخبارات:

- بيان في منتصف حزيران من أسامة بن لادن إلى المتدرّبين يفيد بأنّه سيقع هجوم في المستقبل القريب.

- معلومات تتحدّث عن الانتقال نحو أعمال حاسمة.

- معلومات في أواخر حزيران تذكر أنّ «حدثاً كبيراً» يوشك أن يحدث.

- معلومتان منفصلتان جمعتا قبل بضعة أيام من اجتماعنا يتوقّع فيها أشخاص حدوث تحوّل مذهل في الأحداث في الأسابيع القادمة.

--> أبلغ ريتش كوندي والآخرين بأنّ الهجوم سيكون «استعراضياً»، وأنّه مصمّم لإيقاع أكبر عدد من الإصابات في المنشآت والمصالح الأميركية. وقال، «لقد أُجريت الاستعدادات للهجوم. ومن المحتمل حدوث هجمات عديدة ومتزامنة، وستقع دون إشعار مسبق إلى حدّ ما. القاعدة تتربّص بنا وتبحث عن نقطة غير منيعة».

وأوجز ريتش جهودنا لتفكيك أهداف محدّدة مرتبطة ببن لادن. وأوضح أنّنا لا نعتزم مفاجأة الأشرار أو وقفهم فحسب. إنّنا نريد أن تنشر الأهداف الخبر بأنّ خطط بن لادن معرّضة للخطر. ونأمل بأن يدفعه ذلك إلى تأجيل الهجمات على الأقل. وفي نهاية هذا الرسم البياني كانت هذه الجملة التي تحتها خطّ: «التفكيك يؤخّر الهجوم الإرهابي فحسب. لكنّه لا يوقف التهديد الإرهابي».

وكما رتّبنا الأمر من قبل، انتقل ريتش من تلك النقطة إلى النقاش في وجوب النظر على الفور في الانتقال من الموقف الدفاعي تجاه بن لادن والقاعدة إلى الموقف الهجومي. وقال، «لقد مزّقنا أو أخّرنا الهجوم الحالي، لكن تهديد أسامة بن لادن مستمرّ. إنّ هدف بن لادن هو تدمير الولايات المتحدة. وعلينا النظر في نهج فاعل لا منفعل تجاه أسامة بن لادن. ومهاجمته بالصواريخ الجوّالة (كروز) بعد هذا الهجوم الإرهابي الجديد يفيد استراتيجيته فحسب. علينا نقل المعركة إلى حيث يوجد أسامة بن لادن في أفغانستان. وعلينا الاستفادة من تزايد استياء بعض القبائل الأفغانية من طالبان. ويجب أن نستفيد من المعارضة الأفغانية المسلّحة».

في نهاية الإطلاع، التفتت كوندي إلى كلارك وقالت، «ديك، هل توافق على ذلك؟ هل الأمر صحيح»؟ وضع كلارك مرفقيه على ركبتيه وأسقط رأسه بين راحتيه وقال نعم ساخطة. نظرت كوندي إلى كوفر وسألت، «ماذا علينا أن نفعل»؟ أجاب كوفر، «على هذا البلد أن يدخل في حال حرب الآن». فيما كنّا نغادر مكتب كوندي، هنّأ ريتش وكوفر أحدهما الآخر. فقد شعرا أنّنا حصلنا أخيراً على الاهتمام التامّ للإدارة.

حذّرنا جهاز استخبارات أوروبي من تهديد «ملموس وخطير» صادر عن شبكة منتشرة للمجاهدين في أفغانستان وباكستان. فقد كان ناشطو القاعدة يسافرون إلى أوروبا، كما قالوا، لكنّ هدف الهجوم وتوقيته مجهولان. وفي اليوم التالي قدّم الجهاز نفسه معلومات محدّدة عن نشاطات أجنبي معروف لدينا. وفي ذلك اليوم نفسه، 17 تموز، أبلغتنا مصادر داخل شبكة الظواهري عن هجوم سيجرى في المملكة العربية السعودية خلال أيام. فأبلغنا المعلومات إلى السعوديين على الفور. واعتقل اليمنيون مزوّر جوازات سفر رئيسياً لبن لادن ضالعاً في تهديد موجّه الى السفارة الأميركية في صنعاء، وقدّمنا لهم متطلّبات الاستجواب. وبعد بضعة أيام تلقّينا ستّة تقارير منفصلة بأنّ مهرّب مخدّرات مقيماً في أفغانستان يسهّل شحن المتفجّرات وأدوات صنع القنابل لناشطي القاعدة في اليمن، لتستخدم ضدّ المصالح الأميركية والبريطانية هناك. واجتمع خمسة أعضاء من المجموعة مع بن لادن في قندهار. ومن أفغانستان ورد خبر بأنّ رئيس استخبارات طالبان، قاري عماد الله، مهتمّ في إقامة اتصال سرّي، خارج البلد ومن دون علم الملا عمر، «لإنقاذ أفغانستان». وأبلغنا أحمد شاه مسعود، من تحالف الشمال، أنّ بن لادن سيرسل خمسة وعشرين ناشطاً إلى أوروبا للقيام بنشاطات إرهابية. وقال إنّ الناشطين سيسافرون عبر إيران والبوسنة.

بدا العالم بأكمله على حافة الانفجار.

في إطلاع تلقّيته في 24 تموز، علمت أنّ الملك عبد الله، عاهل الأردن، بعث برسالة يعبّر فيها عن رأي بوجوب التعامل مع بن لادن وهيكل قيادته في أفغانستان بطريقة حاسمة وعسكرية. وأنّه عرض لتلك الغاية إرسال كتيبتين من القوات الأردنية الخاصة للتعامل مع القاعدة ومطاردتها من بيت إلى بيت عند الضرورة. كان العرض التفاتة رائعة لكن يجب أن يكون جزءاً من استراتيجية شاملة أوسع لينجح. لقد كان بن لادن يشكّل بالنسبة إلى الملك عبد الله أكبر تهديد في العالم على أمن بلده، وكان يريدنا أن نعرف أنّ الأردن مستعدّ للعمل بمثابة رأس حربة. ففكّرت أنّ هذا الشبل من ذلك الأسد، وأنّ تلك التفاحة لم تسقط بعيداً من الشجرة. لا يسع المرء سوى أن يحترم ملك الأردن وعائلته بعد سماعه شيئاً كهذا.

نقلت معلومات حديثة لمركز مكافحة الإرهاب عن وضع التهديد الإرهابي خبراً من مصدر استخبارات آخر أنّهم أوقفوا أحد شركاء الأردني أبو مصعب الزرقاوي. ومن المثير للاهتمام أنّ ذلك الشخص ربط الزرقاوي بأبي زبيدة، ووسّع معلوماتنا عن شبكة أبي زبيدة في الخليج وأوروبا، وقدّم خيوطاً تدلّ على ناشطين آخرين في السودان والمملكة المتحدة والبلقان. وعند تحليل البيانات توصّلنا إلى أنّ شبكة الزرقاوي أوسع وذات صلات أفضل مما كنّا نتوقّع.

في أوائل أيلول، كان يوجد لدى الـ «سي آي اي» مجموعة من الأشخاص المفيدين في جهاز استخبارات شرق أوسطي تعمل لمصلحتنا. ولم يكن أحد من هؤلاء الأشخاص الذين يزيد عددهم على العشرين يعرف أنّه يعمل لنا. وقد وجّهوا نحو مجموعة من قضايا الإرهاب. كان ثلثهم يعمل ضدّ القاعدة. وبحلول أيلول 2001 ، نجح عميلان منفردان من اختراق معسكرات تدريب الإرهابيين في أفغانستان.

في 10 أيلول، توجّه مصدر نديره في شكل مشترك مع بلد شرق أوسطي لرؤية مدبّره الأجنبي وأبلغه ما مفاده أنّ شيئاً كبيراً يوشك أن يحدث. استبعد المدبّر ذلك. غير أنّنا لو عرفنا ذلك في حينه لبدا مثل كل التحذيرات التي تلقّيناها في حزيران وتموز وآب وأوائل أيلول - مخيفاً لكن من دون شيء محدّد.

بعد أقل من أربع وعشرين ساعة، حدث ما لا يمكن تصديقه. لكنّه لم يكن بعيد الاحتمال بالنسبة إلينا على الإطلاق. فلم نكن نفكّر في شيء سواه.

* تصدر الترجمة العربية للكتاب عن دار الكتاب العربي في بيروت آخر هذا الشهر.
نقلا عن // الحياة //


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد