الحلقة السابعة

mainThumb

14-07-2007 12:00 AM

مذكرات جورج تينيت «في قلب العاصفة» (7) ... عبدالقدير خان يبيع مخططات نووية لإيران والقذافي يلتزم التخلّي عن أسلحة الدمار

 الحياة - 13/07/07//


--> تحجم أجهزة الاستخبارات عن التحدّث عن نجاحاتها علناً. بل من المفيد أحياناً أن يُنظر الى المنجزات الإيجابية على أنّها إخفاقات وذلك لتضليل الحكومات الأجنبية والمنظمات الشريرة. غير أنّ ثمة عمليتين ناجحتين حظيتا ببعض الاهتمام الشعبي المحدود في أثناء ولايتي. فتفكيك شبكة عبدالقدير خان لنشر الأسلحة النووية وإنهاء برامج أسلحة الدمار الشامل الليبية مثلان كلاسيكيان عن أنواع العمل الذي يمكن أن تقوم بها أجهزة الاستخبارات الأميركية، بل عليها القيام بها، إذا أردنا تجنّب مستقبل كارثي.

يعتبر الدكتور عبدالقدير خان، وهو عالم معادن، أباً لبرنامج الأسلحة النووية الباكستانية. درس في أوروبا وحصل على شهادة الدكتوراه من بلجيكا سنة 1972. عمل في صناعة الطاقة النووية في هولندا وعاد إلى باكستان سنة 1976 لمساعدة بلده في منافسة الهند التي كانت نفّذت أول تفجيراتها النووية. وقد سرق خان من مسؤوليه مخطّطات تفصيلية ومعلومات منحت باكستان انطلاقة سريعة لدخول العصر النووي. (دانت محكمة هولندية سنة 1983 خان غيابياً بالتجسس النووي، لكن الحكم نُقض بعد سنتين بناء على نقطة قانونية).

في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، قاد خان مسعى جريئاً لبناء منشأة لتخصيب اليورانيوم. وقد حظيت جهوده بتقدير كبير بحيث أعادت باكستان في النهاية تسمية منشأة الأبحاث «مختبر خان للأبحاث» تكريماً له.

في سنة 1979، علّقت الولايات المتحدة المساعدة العسكرية والاقتصادية التي تمنحها إلى باكستان بسبب مخاوفها من محاولات ذلك البلد التوصّل إلى صنع يورانيوم صالح للأسلحة. وفي أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات، بدأت التقارير تظهر في وسائل الإعلام وسواها عن أنّ باكستان نجحت في إنتاج ما يكفي من المادّة الشطورة لصنع قنبلة خاصة بها.

سرت إشاعات طوال سنوات ووردت نتف من المعلومات الاستخبارية بأنّ خان يشارك الآخرين خبرته القاتلة خارج حدود باكستان. وكان نطاق صِلاته الدولية واسعاً - في الصين وكوريا الشمالية وفي كل أنحاء العالم الإسلامي. وفي بعض الحالات، كانت هناك إشارات الى أنّه يتاجر بالخبرة والمواد النووية مقابل معدّات عسكرية أخرى - على سبيل المثال، مساعدة كوريا الشمالية في مساعيها لتخصيب اليورانيوم مقابل تكنولوجيا الصواريخ البالستية. وكان من الصعب جداً معرفة ما الذي يرمي إليه بالضبط، أو إلى أي حدّ يقوم بمساعيه بطلب من الحكومة الباكستانية وتأييدها. كان يفترض أنّ خان موظّف حكومي بسيط ذو راتب متواضع، مع ذلك كان يعيش حياة باذخة ولديه إمبراطورية تواصل توسّعها في شكل دراماتيكي.

اكتشفنا مقدار اتساع شبكة خان الخفية التي تمتدّ من باكستان إلى أوروبا والشرق الأوسط وآسيا. وقد جمعنا أجزاء صورة المنظمة بعضها إلى بعض، وكشفنا فروعها وعلماءها والشركات التي تشكّل واجهة لها وعملاءها وماليتها ومعاملها.

كان ما علمناه من عملياتنا غير عادي. فقد أثبتنا أنّ خان يسلّم زبائنه أشياء مثل أجهزة الطرد المركزي النووية غير المشروعة. وكان عبدالقدير خان العقل المدبّر وراء كل مساعي الانتشار في ما يتعلّق بكوريا الشمالية وجنوب إفريقيا، وقد أطلعنا الرئيس على ما اكتشفناه.

أثبت ما كشفناه أنّ خان وشركاءه يبيعون مخططات تفصيلية لأجهزة طرد مركزيّ لتخصيب اليورانيوم، إضافة إلى التصاميم النووية المسروقة من الحكومة الباكستانية. كما باعت الشبكة سداسي فلوريد اليورانيوم، الغاز الذي يمكن تحويله في عملية الطرد المركزي إلى يورانيوم مخصّب للقنابل النووية. وقدّم خان وشركاؤه لإيران وليبيا وكوريا الشمالية تصاميم لأجهزة طرد مركزي باكستانية قديمة ولنماذج أحدث وأكثر كفاءة. كما وفّرت الشبكة لتلك البلدان مكوّنات لأجهزة الطرد المركزي، وأجهزة كاملة في بعض الأحيان. واستخدم خان وشركاؤه مصنعاً في ماليزيا لصنع الأجهزة الرئيسة. وأمّن ناشطون آخرون في الشبكة، مقرّهم في أوروبا والشرق الأوسط وآسيا، قطعاً أخرى. وكان نائب خان - وهو يدعى ب. س. أ. طاهر - يدير شركة للكومبيوتر في دبي استخدمها بمثابة واجهة لشبكة خان، وعمل مسؤولاً مالياً رئيسياً وغاسل أموال للشبكة.

لم يتضح إلى أي حدّ كانت الحكومة الباكستانية تعرف عن تعاملات خان وتدعمها، وكان علينا أن نكتشف ذلك.

برز الرئيس مشرّف في شكل بطولي في أعقاب 11/9 وساعدنا في قتال «القاعدة» وطالبان. وأنا الآن أوشك أن أطلب منه أن يتصدّى لرجل حوّل باكستان، بمفرده تقريباً، إلى قوة نووية وينظر إليه على أنّه بطل قومي.

لا يمكنك أن تقدّم مثل هذه الطلبات على الهاتف، ولا أن تقدّمها حتماً أمام مجموعة كبيرة من الأشخاص. تبيّن أنّ مشرّف قادم إلى مدينة نيويورك لحضور الجمعية العامة للأمم المتحدة، فطلبت اجتماعاً معه على انفراد في 24 أيلول 2003. اجتمعنا في جناحه في الفندق. وكان كما نطلق عليه في الاستخبارات اجتماع «أربع عيون» - أنا وهو على انفراد من دون مناولين ومدوّنين للملاحظات.

بدأت بشكره على مساندته الشجاعة للحرب على الإرهاب وأبلغته أنّني سأنقل إليه الآن أخباراً سيّئة. قلت: «عبدالقدير خان يخون بلده. لقد سرق بعض أكثر أسرار بلده حساسية وباعها إلى من يدفع أعلى الأسعار». وتابعت قائلاً: «سرق خان أسرار الأسلحة النووية. ونحن نعرف ذلك لأنّنا سرقناها منه». -->

أخرجت من حقيبتي بعض المخططات التفصيلية ورسوماً لتصاميم نووية سرقت من الحكومة الباكستانية. لست عالماً نووياً، ولا الرئيس مشرّف، لكن فريقي أطلعني في شكل جيّد بحيث يمكنني أن أشير إلى علامات على الرسوم تثبت أنّ التصاميم يفترض أن تكون في خزنة حديد في إسلام أباد لا في فندق في نيويورك.

وأخرجت مخططاً تفصيلياً لتصميم جهاز الطرد المركزي الباكستاني P1. «لقد باع ذلك إلى إيران». ثم أخرجت تصميماً للجيل الثاني من أجهزة الطرد المركزي P2 . «باع هذا إلى بلدان عدة». وبسطت من دون توقّف مستنداً آخر أمام الرئيس مشرّف. «هذه هي رسوم مصنع معالجة اليورانيوم التي باعها إلى ليبيا».

لم يكن هناك أي شكّ في حجم المشكلة ونطاقها.

على رغم أنّ مشرّف اعترف لاحقاً بأنّ تلك اللحظات كانت الأكثر حرجاً في رئاسته، فإنّه لم يظهر أمامي أي انفعالات. وطالما وجدت أنّه زبون بارد يبدو أنّه يتقبّل أي كلمة تقولها له.

أبلغته بأنّني أعرف أنّه حاول منذ آذار (مارس) 2001 تقييد سفر عبدالقدير خان خارج البلاد. ثم أعطيته لائحة مفصّلة عن عشرات الرحلات الخارجية التي قام بها خان على رغم التقييد، بل إنّ خان كان يقوم برحلة مبيعات دولية فيما نحن نتحدّث معاً.

قلت: «سيدي الرئيس، إذا حصل بلد مثل ليبيا أو إيران، لا سمح الله، أو منظّمة مثل «القاعدة»، على جهاز نووي يعمل، وعلم العالم أنّه جاء من بلدك، فإنّني أخشى أن تكون النتائج مدمّرة».

اقترحت بعض الخطوات التي يمكننا القيام بها معاً لمعرفة مقدار فساد خان ووضع حدّ حاسم لذلك.

طرح الرئيس مشرّف بعض الأسئلة ثم قال ببساطة: «شكراً لك يا جورج، سأهتمّ بهذا الأمر».

لم يمضِ وقت طويل على عودة الرئيس مشرّف إلى باكستان، حتى نجا من محاولتي اغتيال بإيحاء من «القاعدة».

في كانون الأول (ديسمبر) تسرّبت أنباء عن تحقيق كبير يجرى في ما يتعلّق بأنشطة مختبر خان للأبحاث. وفي 25 كانون الثاني (يناير) 2004، أعلن المحقّقون الباكستانيون أنّ خان قدّم مساعدة تقنية غير مأذون بها إلى برنامج إيران النووي مقابل عشرات ملايين الدولارات. وبعد ستة أيام، صُرف خان من منصبه «مستشاراً علمياً» لمشرّف للسماح باستئناف التحقيق. ثم في أوائل شباط (فبراير)، أعلنت الحكومة الباكستانية أنّ خان وقّع على اعتراف يقرّ فيه بمساعدة إيران وليبيا وكوريا الشمالية بتقديم تصاميم وأجهزة لبرامج الأسلحة النووية لديها.

ظهر خان على التلفزة الوطنية في باكستان في 4 شباط وأدلى بكلمة بالإنكليزية استغرقت ثلاث دقائق. قال: «إنّني أتحمّل المسؤولية الكاملة عن أفعالي وأطلب منكم الصفح». وعبّر عن عميق «الإحساس بالأسف والألم والندم»، قائلاً إنّ أفعاله تمّت «بنية حسنة» لكنّها كانت ناتجة من «أخطاء في الحكم».

في اليوم التالي عفا عنه مشرّف لكنّه وضعه تحت الإقامة الجبرية الدائمة. كنّا نفضل أن يواجه خان المحاكمة، ونريد أن يقوم محقّقون أميركيون ومن الوكالة الدولية للطاقة الذرية باستجوابه في شكل موسّع عن تعاملاته، مع ذلك فإنّ النتيجة تعتبر نجاحاً كبيراً.

في عالم انتشار التقنية النووية الجديد، حلّت محل الدول القومية شبكات غامضة مثل شبكة خان قادرة على بيع برامج أسلحة نووية كاملة لمن يدفع أعلى الأسعار.

ما لا نعرفه هو عدد الشبكات المماثلة لشبكة خان - التي تعمل من دون أن تكشف - وتعرض النصح والتجهيزات القاتلة على كل من يمتلك المال لدفعه لها. وفي السوق الحالية، يمكنك أن تصبح قوّة نووية إذا كنت تمتلك مئة مليون دولار. -->

كانت الـ «سي آي إي» تعقد اجتماعات سرية مع مسؤولين ليبيين كبار منذ سنة 1999. وقد صمّمت جهودنا لمحاولة حل القضايا المتعلّقة بالإرهاب ومعرفة ما أمكن من الليبيين عن المجموعات الإرهابية الإسلامية المختلفة. عقدت هذه الاجتماعات التي جرت مع زملائنا البريطانيين في مدن أوروبية عدة. كان يقود الوفد الليبي رئيس الاستخبارات لدى العقيد معمر القذافي، موسى كوسا، الحاصل على شهادة ماجستير من جامعة ولاية متشيغن سنة 1978. ولعل ما يوضح العالم السوريالي الذي يجب علينا أن نعمل فيه، أنّ ضباط الـ «سي آي إي» وجدوا أنفسهم يتبادلون المجاملات مع رجل تعتبره بعض الروايات العقل المدبّر وراء تفجير رحلة بانام 103 في كانون الأول 1988 التي أودت بحياة 270 شخصاً.

تواصلت هذه الصلات سنوات، إلى أن دانت المحكمة الاسكتلندية أحد ضابطي الاستخبارات الليبية بالتآمر في تفجير الطائرة وبرّأت الآخر. كان تعاون ليبيا مع المحكمة الاسكتلندية، بالإضافة إلى إجراءات أخرى، علامات - خافتة في الواقع - على أنّ ليبيا ربما تبحث عن طريقة للخروج من مأزق الإرهاب الذي علقت فيه منذ أكثر من عشرين عاماً.

في أعقاب هجمات 11/9، دان العقيد القذافي علناً الأعمال الإرهابية، ووصفها بأنّها «رهيبة»، وأعلن أنّ الشعب الليبي مستعدّ لإرسال مساعدات إنسانية إلى أميركا، وكانت تلك إشارة مثيرة للاهتمام.

تبادلنا بعض بيانات تتبّع الإرهاب مع ليبيا في أعقاب 11 أيلول، لكن محور اهتمامنا كان تعقّب «القاعدة» في أفغانستان، لذا خفتت اتصالاتنا مدّة من الزمن. وفي آذار 2003، فاتح مبعوث للعقيد القذافي مسؤولين بريطانيين بصورة غير رسمية. قال إنّ القذافي يفكّر في التخلّي عن برامجه لأسلحة الدمار الشامل وسأل عما إذا كان الغرب مستعداً لرفع العقوبات عن ليبيا إذا فعلت ذلك.

سافر مسؤول كبير في الاستخبارات البريطانية إلى الولايات المتحدة فيما بدأت الحرب في العراق. اجتمعت به في اليوم التالي. وبعد خمسة أيام، انضممت إلى الرئيس بوش ورئيس الوزراء البريطاني بلير في كامب ديفيد. كان في صحبة بلير نظيري السير ريتشارد ديرلوف، وهو أحد أمهر وأقدر ضباط الاستخبارات الذين عملت معهم، وكان يحظى بصدقية فورية لدى الزعماء السياسيين على جانبي الأطلسي، نظراً لعمق فكره وفصاحته.

على رغم أنّنا صرفنا مجمل الوقت في الحديث عن العراق، فقد بحثنا أيضاً مبادرة القذافي المفاجئة. ها نحن بعد أيام فقط على بدء غزو العراق الذي حفزته، جزئياً على الأقل، مخاوفنا في شأن برامج صدام النووية والبيولوجية والكيماوية، وفجأة تريد دولة مارقة أخرى التحدّث عن احتمال التخلّي عن برامجها.

تناقشنا في شأن دوافع القذافي. بدا لنا أنّ الليبيين أدركوا أنّهم لم يحقّقوا شيئاً من محاولتهم المكلفة جداً للحصول على أسلحة الدمار الشامل. وكانوا يكافحون لإيجاد مكان لهم في العالم. فليبيا هي الرجل الغريب في العالمين العربي والإفريقي. ولا يمكنك أيضاً إلا أن تأخذ في الحسبان الأثر الذي يحدثه 150000جندي أميركي في تركيز الأفكار.

أياً يكن الزخم، فلا شكّ في أنّ ذلك يشكّل فرصة لا يمكن أن نستبعدها. عدت من كامب ديفيد واستدعيت إلى مكتبي جيم بايت وستيف كابس، وهما أعلى ضابطين في جهازنا السري. أطلعتهما على الفرصة التي لدينا مع ليبيا وأبلغتهما وجوب التعامل معها على مستوى عالٍ وبتكتّم شديد. كنت أنا وبايت غارقين حتى آذاننا في عملية حرية العراق، لكنّنا وجدنا المرشّح المثالي في كابس. وستيف أحد أقدر ضباط الحالات الذين كنت محظوظاً بمعرفتهم. وهو يتقن الروسية والفارسية وتعامل مع بعض أصعب المهمات التي يمكن أن تعرضها الوكالة. وضعت المشروع بين يديه وعدت إلى الاهتمام بالعراق. فُوّض كابس ونظير بريطاني بالمهمّة، كلّ عن جهازه. فحددا موعداً مع الليبيين للتأكّد مما إذا كانوا جادّين حقاً في شأن التخلّي عن برامج أسلحة الدمار الشامل لديهم.

سافر كابس ونظيره البريطاني إلى مدينة أوروبية في أواسط نيسان (مارس). كانت الخطة تقتضي في البداية أن يقابلا رئيس الاستخبارات الليبية موسى كوسا والديبلوماسي الليبي فؤاد سلتني في الفندق الذي ينزلان فيه الى مائدة الفطور. انتقى ستيف وزميله طاولة تتيح لهما رؤية المطعم بأكمله. وقبيل حلول الموعد، دخل شابان من أصول شرق أوسطية. لاحظ كابس أنّه تظهر عليهما ملامح المهنيين الأمنيين. وبعد لحظات، دخل إيهود باراك، رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق المطعم. من الواضح أنّ الجو لم يعد ملائماً لإجراء مناقشات حساسة. بينما واصل كابس مراقبة الإسرائيليين، اعترض البريطاني الليبيين وأخذهما إلى غرفة اجتماعات في الطابق العلوي في الفندق. وسرعان ما انضم كابس إليهم.

بعدما جلس موسى كوسا، وهو رجل طويل حسن الهندام، بدأ حديثاً طويلاً معلّباً عن موقف ليبيا. وكنّا قرّرنا ألا نعطي الليبيين أي مادّة خطية من الولايات المتحدة في الاجتماع الأول، لكن كابس نقل رغبة الرئيس في أن تتخذ ليبيا الخطوات اللازمة للعودة إلى «أسرة الأمم».

استغرق ذلك الاجتماع الأول أكثر من ساعتين. وبعد بعض النقاش، اعترف موسى كوسا بأنّ بلده انتهك كل معاهدة وقّع عليها للحد من الأسلحة. ثم قال إنّهم يريدون التخلّي عن برامج الأسلحة لديهم، وأنّ علينا أن نثق بهم، وطلب إشارة على النية الحسنة من جانبنا.

أوضح ستيف وزميله البريطاني مبدأ «الثقة ولكن الإثبات» الذي شهره الرئيس ريغان، وقالا إنّ بلديهما لن يقدّما علامات على النية الحسنة إلى أن يصل خبراء على الأرض في ليبيا ويتحقّقوا من مدى اتساع المقدّرات الليبية، ويطمئنّوا إلى أنّ البرامج قيد التفكيك.

مضت أشهر إضافية من دون إحراز تقدّم في الجانب الليبي. وعقد اجتماع آخر في آب (أغسطس) ودعا موسى كوسا ستيف وزميله البريطاني إلى المجيء إلى ليبيا والاجتماع بالقذافي نفسه.

توجّه ستيف وزميله البريطاني إلى طرابلس في أوائل أيلول. وكما هو معهود في الشرق الأوسط، أرجئ الاجتماع الموعود مرات عدة فيما انتظرا في الفندق على شاطئ المتوسّط. وقد نبّههما موسى كوسا إلى أنّ الدقائق القليلة الأولى من الاجتماع مع القذافي ربما تكون «قاسية قليلاً».

أخيراً، في وقت مبكّر من الليل، استُدعيا. قادهما موسى كوسا بنفسه إلى مكتب القذافي. وفي الطريق وجد الوقت ليقول لهما إنّ المكان هو الموقع نفسه الذي قصفه الأميركيون سنة 1986، وقُتلت فيه إحدى بنات القذافي بالتبنّي على ما يزعم.

أُدخلا إلى مكتب القذافي الواسع. كان هناك مصباحان كبيران على جانبي مكتب كبير يعلوه كومبيوتر شخصي حديث. (علم ستيف أنّ القذافي يمضي ساعات في تصفّح الوب، لمتابعة التطوّرات الجارية في العالم الخارجي). كان الزعيم ينتعل شبشباً إيطالياً ثميناً ويرتدي قميصاً مزوّقاً بخريطة لإفريقيا. بعد مقدّمات وجيزة، جلس الزائران وأطرق موسى كوسا رأسه كما لو أنّه يعرف ما سيلي، وأخرج المترجم دفتر ملاحظاته. بدأ القذافي على الفور بهجاء الغرب، والولايات المتحدة على الخصوص، على كل جريمة يمكن تصوّرها. وقد وجد المترجم صعوبة كبيرة في متابعة الكلمات العربية فيما كانت تتطاير من فم القذافي.

بعد مرور سبع عشرة دقيقة تقريباً من النقد القاسي، رفع موسى كوسا رأسه كما لو أنّه عرف أنّ الخطاب يوشك أن ينتهي. استنفد القذافي طاقته، فتوقّف ليأخذ نفساً للمرّة الأولى وابتسم. ثم قال: «يسعدني لقاؤكما. وشكراً على قدومكما». وبعد ذلك دخل في صلب الموضوع.

كرّر قول «نريد تنظيف الملف». وكل شيء موضوع على الطاولة. وفي إحدى المراحل ذُكرت برامج أسلحة الدمار الشامل الليبية، فاسترسل القذافي الذي ادّعى أن ليس لديه برامج أسلحة دمار شامل. وأعقب ذلك نقاش عما تعنيه «أسلحة الدمار الشامل» بالضبط، وبعد ذلك تواصل البحث. وفي مرحلة أخرى، ذكر أحدهما أنّ الولايات المتحدة وبريطانيا تريدان إجراء «تفتيش» لمنشآت الأسلحة الليبية. غضب القذافي ثانية، لكن اتضح في النهاية أنّنا لو سمينا الأمر «زيارات» بدلاً من «أعمال تفتيش»، فلن تعود هناك مشكلة كبيرة.استمرّ الاجتماع نحو ساعتين ونصف الساعة. وانتهى من دون أي نتيجة سوى قول القذافي: «سووا الأمور مع موسى كوسا».

عندما عاد كابس إلى الولايات المتحدة، اصطحبته لإطلاع الرئيس ثانية. علمت أنّ ستيف غير مفرط في الحماسة للوضع ولا فاتر الحماسة. فقد قدّم للرئيس تقويمه بأنّ لدى الليبيين الكثير من الأسباب التي تدعوهم إلى الرغبة في التوصّل إلى اتفاق الآن. وأوضح أنّ خوفهم من الإسلاميين كبير مثل خوفنا. وإذا ما وجدوا طريقة يُرضون بها الغرب، فإنّ في وسع الليبيين إرسال أنبه أبنائهم إلى الجامعات الأميركية، وفي وسعهم اجتذاب الشركات النفطية الكبرى لمساعدتهم في تعزيز ازدهار اقتصادهم الذي يروغ منهم. ومع ذلك فإنّه قال إنّ السجل الليبي يشير إلى أنّهم من المرجّح أن يتردّدوا قبل التوصّل إلى اتفاق.

في خريف 2003، اندمج عنصرا نجاحينا معاً - عبدالقدير خان وليبيا. فمن خلال عمليتنا ضدّ خان، علمنا أنّ سفينة مسجّلة في ألمانيا، تدعى «بي بي سي تشاينا»، تحمل قطع أجهزة طرد مركزي متوجّهة إلى ليبيا. وبعد أن عبرت قناة السويس، عملنا على تحويل وجهة السفينة إلى ميناء تارانتو الإيطالي، حيث وصلت إلى هناك في 4 تشرين الأول (أكتوبر). عثر المفتّشون هناك على قطع أجهزة طرد مركزي في حاوية طولها أربعون قدماً مدرجة في بيان شحن السفينة بأنّها «قطع آلات مستعملة».

كنّا مسرورين لأنّنا اعترضنا الشحنة، لكنّنا تردّدنا في المبالغة في أهمية الاكتشاف في ذلك الوقت، على أمل أن نتمكّن من استخدام الواقعة لنرسل إلى الليبيين رسالة مفادها أنّنا نعرف كل شيء عن خططهم ونعطيهم حافزاً أكبر على نبذ كل أسلحة الدمار الشامل لديهم.

أوفد البريطانيون ضابطاً كبيراً إلى ليبيا لإبلاغ القذافي قبل أن يصل نبأ ضبط الشحنة إلى الصحف. وقد زعم الليبيون أنّ الشحنة كانت مرتّبة قبل أن تبدأ المفاوضات السرية الحالية وأنّ الأشخاص المسؤولين عن مراقبتها لم يعلموا بأمر القرار الوشيك للتخلّي عن أسلحة الدمار الشامل.

بعد أن منحنا الليبيون في النهاية الموافقة على زيارة فرق التفتيش، توجّهت مجموعة من خبراء الأسلحة في الـ «سي آي إي» من الولايات المتحدة إلى المملكة المتحدة لاصطحاب زملائهم البريطانيين. وفي 19 تشرين الأول انتقلوا إلى ليبيا بطائرة لا تحمل تسمية. فمنظر الطائرة التي تحمل تسمية «الولايات المتحدة الأميركية» شيء لم يكن الليبيون ولا نحن مستعدّين لشرحه. وقبيل الهبوط مباشرة، أبلغ الطاقم كابس أنّ طرابلس ترفض منحهم الإذن بأن يحطّوا. لم يعلم أحد إذا كان ذلك إساءة بيروقراطية أم أنّ الليبيين تردّدوا ثانية، لذا أبلغ ستيف الطاقم أن يطلبوا من برج المراقبة الاتصال بموسى كوسا إذا كان لديهم أي سؤال عن وصولهم. وخلال دقائق مُنح الإذن بالهبوط. ظنّ ستيف أنّ تكتّم الليبيين على وصول الفريق أمر جيّد. لكن عندما درجت الطائرة نحو المحطة الطرفية، نظر ستيف من نافذة الطائرة وشاهد فرقة راجلة تتخذ مواقعها. تبيّن في ما بعد أن لا داعي للقلق - فالفرقة موجودة لتقديم التحية لزائر آخر - وتوقّفت طائرة الـ «سي آي إي» في موقع بعيد. -->

كانت المبادرة الليبية سرّاً كبيراً في بلد القذافي، مثلما أبقيناها سراً مكنوناً في الولايات المتحدة. جرى اصطحاب كابس ونظيره البريطاني وفريقهما إلى مجمّع احتشد فيه جمع كبير من المسؤولين المحليين. وكان في وسع كابس أن يعرف أن ليس لدى الليبيين أي توجيه عما يقولونه للزوّار. بدا عليهم الخوف وربما اعتقدوا أنّ الإجراء بأكمله اختبار للولاء للقائد العظيم لمعرفة من منهم الأقدر على التكتّم. وأخيراً، توصّل الليبيون ببطء، على مدى أيام عدة، إلى أنّ من المفترض بهم كشف ما يعرفونه وأنّ ذلك ليس ضرباً من ضروب الخداع.

في 21 تشرين الأول، بعد مضي يومين من التقدّم المحدود، طلب القذافي الاجتماع بكابس بمفرده. وفي المكتب الكبير، عاود القذافي إطلاق انتقاده المعهود. وبعد مدة من الوقت توقّف وسأل إذا كانت الولايات المتحدة ستفي بالتزاماتها حقاً إذا ما تخلّى عن برامج أسلحة الدمار الشامل. أجاب كابس: «نعم، الرئيس رجل يلتزم بوعوده. لكن إذا شعر بالاستخفاف بوعده... فإنّه ذو طبع جادّ جداً». وواصل القذافي تكرار أنّه يريد «تنظيف الملف، تنظيف الملف».

بعد بضعة أيام، تباطأت الأمور ثانية. لذا لجأ ستيف وزميله البريطاني إلى روتين «حزم الحقائب» المجرّب والناجح. فأمرا المفتشين عن الأسلحة بحزم أمتعتهم واتصلا بالطائرة للمجيء ونقلهم. فصاح موسى كوسا قائلاً: «إنّكم متعبون جداً»، لكنّه أمر بمزيد من الانفتاح وأُفرغت الحقائب.

كان التقدّم بطيئاً، حيث كان الليبيون يعرضون على المفتشين الأميركيين والبريطانيين الشوط المقطوع في برامج الأسلحة المختلفة. وفي الكثير من الحالات، حاول الليبيون إخفاء أجزاء من برامجهم، من دون أن يدور في خلدهم مقدار ما نعرف بالفعل. فقد أرونا صواريخ سكود بي التي لديهم، فقلنا: «حسناً، أين توجد صواريخ سكود سي»؟

عندما أطلِع مفتشونا على منشأة تخزين للمواد الكيماوية الشديدة السمية، أصيبوا بالذهول. لم تكن المفاجأة أنّ الليبيين يمتلكون المواد الكيماوية المميتة، ولكن لأنّها مخزّنة في جرار بلاستيكية كبيرة ولأنّ احتياط السلامة الوحيد الذي يتبعه الليبيون هو سدّ أنوفهم عند دخول المنشأة. تراجع الأميركيون على عجل وارتدوا بدلات وقاية من المواد الكيماوية تغطي الجسم بأكمله قبل أن يعاودوا دخول المخزن.

استغرقت عملية جرد البرامج المختلفة أشهراً عدة. غير أنّ الليبيين كانوا أكثر تشدّداً في عدم التعاون في المجال النووي. ولم تكن لديهم أي فكرة عن مقدار ما نعرفه عن برنامجهم بالفعل.

في أواخر تشرين الثاني 2003 ، دعا ستيف ونظيره البريطاني موسى كوسا إلى اجتماع. قالا له: «نعرف أنّكم اشتريتم مرفقاً لأجهزة الطرد المركزي». وعندئذٍ أدرك الليبيون أنّه لا مجال للتراجع. فبعد أن بدأوا بإبلاغنا عن برامجهم، لم يعد أمامهم سوى إكمال المسعى نظراً لما نعرفه بالفعل.

في الواقع، كنّا نعرف كل ما يجب أن نعرفه عن برنامجهم بسبب عمليتنا ضدّ شبكة خان. وكان الأمر شبيهاً بلعب بوكر عالي المخاطر وأنت تعرف أوراق خصمك. وفي هذه الحالة كانت المخاطر التفكيك التام والسلمي لمشروع الأسلحة النووية الذي كان سيمنح العقيد قدرة الأسلحة النووية في نهاية المطاف.

في بعض الأحيان كنّا نعرف أكثر مما يعرف الليبيون أنفسهم. وفي إحدى المراحل قلنا لهم: «نعرف أنّكم دفعتم مئة مليون دولار للحصول على كل هذه الأشياء من عبدالقدير خان». فساد صمت محيّر لدى الجانب الآخر. «مئة مليون دولار؟ ظننا أنّ السعر مئتا مليون دولار»! يبدو أنّ أحدهم حقّق ربحاً هائلاً.

في أواسط كانون الأول، كان قد أحرز ما يكفي من التقدّم بحيث يتمّ الإعلان عن الاتفاق. خضع ذلك لتنسيق مدروس؛ يقوم القذافي أولاً بالإعلان أمام شعبه أنّه قرّر التخلي عن برامج أسلحة الدمار الشامل. وبعد ذلك يدلي رئيس الوزراء البريطاني بتعليقات علنية يرحّب بها بتلك الأخبار، تليها ملاحظات من الرئيس بوش. تمّ تحديد الموعد في 19 كانون الأول. ثم في اللحظة الأخيرة جاء خبر من ليبيا بأنّ العقيد يريد تأخير الموعد. ظننا أنّه يريد سحب البساط من تحت الاتفاق. لكن تبيّن أن التفسير بسيط. كان المنتخب الليبي لكرة القدم سيلعب مباراة تنقل على التلفزة في تلك الليلة، ولم يشأ القذافي إزعاج الجمهور بقطع تغطية مباراة مهمة للإعلان عن شيء لا يهم معظم الليبيين: أسلحة الدمار الشامل.

تصدر الترجمة العربية للكتاب عن دار الكتاب العربي في بيروت آخر هذا الشهر
 
نقلا عن // الحياة //


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد