سورية التي يهاجمها الموت في كل وقت، تعيش على أصوات الرصاص والقذائف ويتجلى ذلك عبر إستهداف التنظيمات التكفيرية المدنيين العزل والأحياء السكنية هناك، سورية تعرف كم تؤلمهم وتزعجهم في هدوئها وكبريائها أمام قذائف الحقد التي تتساقط وتقتل وتدمر الحجر والبشر، وهي صامدة أمام هكذا عمليات إرهابية، تستقبلها بكل قوة وعزيمة ولا تنحني ولن، لأنها أكبر من التنظيمات وأدواتها بكبريائها وشموخها، فهي سورية التي لم تقدم الإنصياع والطاعة ولن تقدمهما لهذه التنظيمات وستبقى شوكة في حلق كل المتآمرين والمجرمين، الذين لم يحققوا أي من النتائج التي أنطلقت من أجلها الحرب على سورية، بل تشير تلك النتائج إلى حالة الإفلاس الذي وصل إليها هؤلاء المجرمون نتيجة الإنجازات الكبيرة التي حققها الجيش السوري في الميدان.
بعد إنهيار كل محاولات التهدئة السابقة في سورية، نتيجة خرق المجموعات المتطرفة للهدنة الإنسانية، عاد الروس والأميركان ليجددوا دعوتهم لوقف إطلاق النار والبدء بهدنة، تم الاتفاق عليها، إعتباراً من أمس لوقف القتال، أملاً في الدفع بالأوضاع السورية نحو الاستقرار، ووقف القتال خلال الأيام القادمة، تمهيداً للمفاوضات المقرر أن تستضيفها روسيا، لذلك فمن المؤكد أن أمريكا متعجلة في التوصل إلي ورقة تفاهم مع روسيا في حل الأزمة السورية، تحت ضغط عاملين، أهمهما خشية نجاح الجيش السوري في إنهاء سيطرة المجموعات المتطرفة وأخواتها على معظم مناطق السورية، وخاصة الرقة ودير الزور وحلب، وهو الهاجس الذي يزعج أمريكا وحلفاؤها في المنطقة، ولهذا تسعي إلى إبطاء تقدم الجيش السوري بكل السبل، أما السبب الثاني فهو تركة أوباما التي يريد أن يسلمها إلي الرئيس الأمريكي الجديد، سواء هيلاري أو ترامب، ويقول إنه لم يفشل تماما في مخططه.
مع اتفاق الهدنة "الروسي - الأمريكي" فى سورية، بدأت أولى خطوات تنفيذ الإتفاق بتحديد مناطق الطيران ما بين موسكو وواشنطن، إلى جانب مناطق عمل الجيش السوري، وقال سيرجى لافروف وزير الخارجية الروسي "اتفقنا على تحديد المناطق التى يعمل فيها الطيران الروسي وحده والمناطق التى يعمل فيها الطيران الأمريكي، بموافقة القيادة السورية، أما قوات الجيش السوري فستعمل فى مناطق أخرى خارج مجال التعاون الروسي الأمريكي، ويتضمن الإتفاق الروسي- الأمريكي، تنسيق جهود مكافحة الإرهاب وتوصيل المساعدات الإنسانية إلى السكان وخاصة فى حلب، وتعزيز نظام وقف العمليات القتالية وتهيئة الظروف لإستئناف العملية السياسية بأسرع وقت ممكن، وإستثني من الهدنة تنظيمي داعش وجبهة النصرة فرع تنظيم القاعدة في سورية، إذ يحق إستهدافهم أي وقت، والتوقف عن كسب أو السعي إلى كسب أراض من الأطراف الأخرى المشاركة بوقف إطلاق النار، وتدخل الخطة حيز التنفيذ اليوم ، وتتمثل الخطوة الأولى لتنفيذها فى هدنة مدتها ٤٨ ساعة، ثم تمدد لـ٤٨ ساعة أخري، تمهيداً للوصول إلى الإلتزام الدائم بوقف إطلاق النار.
بما أن ميادين القتال متداخلة بين القوى المسلحة المتصارعة، فإن من السهولة قيام أي طرف بخرق الهدنة وإتهام الطرف الآخر بخرقها، كما يحدث في كل الحروب المماثلة، أو أن يسعى أي طرف إلى استغلال الهدنة كي يحسن مواقعه القتالية، ما يستدعي الرد عليه من الطرف الآخر، واشتعال المواجهات مجدداً، وجاءت الهدنة المتفق عليها حالياً بعد خسارة المجموعات المسلحة وحلفاؤها في حلب جراء القصف السوري والروسي العنيف على مواقعها في حلب وريفها في الأيام الماضية ما أدى لتقدم الجيش السوري في جنوب غرب حلب، وسيطرته على الراموسة، وفتح الطريق الرئيسي إلي حلب، وأحكم السيطرة على شرق المدينة، ولم يعد أمام المسلحين في الشرق إلا الانسحاب أو الانتحار.
في سياق متصل إن وقف إطلاق النار ضروري لهدفين أساسيين، أولهما إفساح المجال للقيام بعمليات إنسانية في القرى والمدن المحاصرة، وثانيها، المباشرة في تمهيد الأرض السياسية لإستئناف عملية التسوية من خلال تعزيز عوامل الثقة بين الأطراف السورية المتصارعة على طاولة المفاوضات، فروسيا يبدو مصرة على نجاح تجربة وقف إطلاق النار، وأبدت استعداداً لتنفيذ كل ما يحقق نجاح هذه الخطوة الأولية، من دون التراجع عن هدف مواصلة الحرب ضد المنظمات الإرهابية، بالمقابل تحتاج إلى جهد وتنسيق كي تنجح ويتم الإنتقال إلى خطوة تالية، مع الأخذ في الحسبان أن هناك قوى وأطراف متعددة وكثيرة متضررة تستطيع التخريب وعرقلة نجاح أي حل سياسي في سورية، بالإضافة الى عدم وجود رغبة أمريكية -غربية لعودة الأطراف إلى طاولة المفاوضات، بل هناك مراوغة أمريكية لإطالة أمد الحرب في سورية، الأمر الذي يثير تساؤلات جوهرية أهمها: هل يكون الإتفاق الأمريكى- الروسي، على التوصل إلى هدنة بين الأطراف المقاتلة بداية النهاية لمعاناة المدنيين السوريين؟ وهل سيوقف هذا الإتفاق نزيف الدم السوري؟ وهل ستلتزم كل الأطراف بالهدنة فعلاً أم سنرى من سيشعل فتائل الأزمة سعياً لتحقيق مصالح المتاجرين بدماء الشعب السوري؟
الأسئلة كثيرة، ولا يمكن الرهان على الهدنة التي أعلنت عنها روسيا وأمريكا، في ظل عدم وجود مراقبين دوليين، إذ باستطاعة أي طرف اتهام الآخر بخرقها غير أن الأمر المتفق عليه بين المراقبين هو أن المجموعات المتطرفة وعملاءها إعتادوا على عدم الإلتزام بتعهداتهم أو الإعتراف بأية قوى أخرى، أنهم قد يلتزموا هذه المرة بالهدنة ويكونوا أكثر جدية في التوصل إلى حل سياسي، ليس لإيمانهم بالآخر أو بالسلام، وإنما لإنقاذ كيانهم بعد أن استنزفتهم الحرب وهم على وشك الإنهيار الكامل، فضلاً عن الإنجازات العسكرية الهامة التي تحققت في الأيام الأخيرة في حلب وسيطرة الجيش السوري وحلفاؤها جزءاً كبيراً من حلب وريفها .
مجملاً.... إن التطورات السريعة في سورية تشير، مع توقيع هدنة، الى أن السوريون يلجأون الى التقاط الأنفاس أملاً في أن تكون الهدنة خطوة لإتفاق نهائي، ينهي الصراع ويعيد الاستقرار والأمن الي المناطق السورية التي تشهد صراعاً منذ 2011، كما أن ردود أفعال المواطنين السوريين الذين عبّروا عن إرادتهم في الصمود والتصدي لمخططات الأعداء، تعكس وعياً كبيراً لديهم بالاستعداد للتضحية والفداء مهما كان الثمن، ما يشكل رسالة للعالم بأكمله أن العمليات الإرهابية لن تستطيع كسر إرادة السوريين، لأنهم متمسكون بوطنهم وعازمون على الدفاع عنه وتطهير ترابه من الإرهاب مهما بلغت التضحيات واضعين نصب أعينهم خيار النصر أو النصر.