وسط شعور مُحبط وواسع الانتشار بأن حروباً مفتوحة وبلا أفق تستنفد المنطقة العربيّة، يحصل في منطقة أخرى من العالم ما يمنح بعض الأمل بوجود حلول سلمية تُغلق الحروب. هذا ما شهدته كولومبيا، في أميركا الجنوبية، قبل أسبوعين ونيف، من غير أن يكون له في العالم العربي، المشغول بمآسيه، الصدى الذي يستحقه.
فقد وقّعت الحكومة الكولومبيّة ومنظّمة «قوّات كولومبيا الثورية المسلحة» المعروفة اختصاراً ب«فارك»، على اتفاقية لإنهاء الحرب الأهلية، الموصوفة عن حق بأنها الأطول زمناً والأعلى تكلفة في تلك القارة. ذاك أن تلك الحرب اندلعت في 1964، أي قبل 52 سنة، وترتّب عليها مقتل 260 ألف شخص وتهجير الملايين من السكان. ويُفترض أن يُجرى في 2 أكتوبر المقبل تصويت شعبي على الاتفاقية لوضعها موضع التنفيذ.
والحال أن الحياة في كولومبيا إبان عقد الستينيات لم تكن تطاق: قلة ضئيلة من السكان من ذوي الأصول الإسبانية يملكون الأراضي التي «اشتروها» من الحكومة، أو حصلوا عليها بطريقة أو أخرى، فيما أكثرية المتفرعين عن أصول سوداء وهندية حمراء يتضورون جوعاً لحرمانهم من كل ملكية زراعية. وقبل ذلك، وفي 1948، كانت قد تسمّمت الحياة السياسية الكولومبية بنتيجة فشل المحاولة التي هدفت إلى الإصلاح السياسيّ، ولكنها انتهت بمقتل المرشّح الرئاسي الليبرالي والشعبي «جورجي إليسر غايتان». وبنتيجة ذلك بدأت الحقبة المسماة ب«العنف» والتي استمرت عشر سنوات وحصدت ما بين 200 و300 ألف شخص.
أمّا في أواسط الستينيات فبلغ القمع أوجَه، متجاوزاً فقراء الريف إلى العناصر الشبابيّة والجامعيّة وليبراليّي الطبقة الوسطى في المدن. وفي المقابل، وتأثّراً بالثورة الكوبيّة التي كانت قد انتصرت في 1959، وبأفكار غيفارية، تشكلت نوى كثيرة تدعو إلى الكفاح المسلّح أو تمارسه، كان أهمها الجناح العسكري للحزب الشيوعي الكولومبي، أو «فارك».
لكنْ، وكما يحصل غالباً، تأتى عن اجتماع السلاح والتطرف العقائدي، حتى حين تكون القضية محقّة في الأصل، تعفّن ميليشياوي وانحطاط باتجاه سلوك إرهابي صريح. فقد موّلت «فارك» نفسها عبر تهريب الكوكايين، كما قتلت كثيرا من المدنيين، وخطفت آلافاً مطالبة بفدية لتحريرهم، وبالقوة والقسر جندت أطفالاً للقتال في صفوفها. وإذ جعلتها تجارة الكوكايين والفدية أغنى منظمات حرب العصابات في العالم، فإن الضربات التي كيلت لها لم تكن بسيطة. فبفعل تسليح وتدريب أميركيين، قُتل معظم قادة «فارك»، كما انخفض عدد مقاتليها من عشرين ألفاً في 2002 إلى سبعة آلاف حاليّاً، تدعمهم شبكة من المدنيين المحازبين تُقدر بحوالي تسعة آلاف شخص.
وهذا ما خلق شعوراً بعبثيّة القتال واستحالة تحقيق النصر، قابله تحول في السلطة الكولومبية نفسها. ففي 2010 انتخب رئيساً للجمهورية خوان مانويل سانتوس، الذي ما لبث أن خالف الخط المتشدد للرئيس السابق ألفارو أورايب. وفعلاً بدأ التفاوض مع «فارك» في 2012، حتى إذا جُدد انتخاب سانتوس للرئاسة في 2014، انتقل التفاوض إلى السرية، حرصاً على النجاح وتدليلاً على بلوغه درجة متقدمة من الأهمية.
وبالفعل تحقّق المأمول فكان الاتفاق الجديد، وكانت نقطتاه الأبرز تسليم «فارك» سلاحها وانخراطها في العملية السياسية، وتعهد الحكومة اتباع سياسات أعدل في النطاق الاجتماعي، خصوصاً المسألة الزراعية. وهذا إذا تمت الموافقة الشعبية عليه، وهي متوقعة، سيتيح لكولومبيا أن تنعم بالمواصفات الإيجابية والثروات التي تتمتع بها: فهي من أكبر بلدان أميركا اللاتينية، تعد 48 مليون نسمة يعيشون على مساحة 441 ألف ميل مربع، ويملكون احتياطات نفطية وذهباً وفضة وزمرداً وبلاتينوم. وهي بالطبع فرصة ثمينة لأن يحل الاستقرار وطلب الازدهار محل الموت والقتل والقتال. متى دورنا؟
نقلاً عن الاتحاد
** جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.