قد يكون مفهوماً أن يلقى رجب طيّب أردوغان تعاطفاً سُنّـيّاً مصدره الشعور باستضعاف طائفيّ عابر للحدود. ومفهوم بالطبع أن يلقى تضامناً سوريّاً هو في أحد وجوهه احتجاج على صمت العالم حيال مأساة سوريّة. وهو تضامن تزداد مبرّراته، لأسباب عمليّة وحياتيّة، بين السوريّين الذين ألجأهم الأسد إلى تركيّا، وهذا ليس تفصيلاً بسيطاً.
أمّا أن يُرفع أردوغان إلى مصاف القائد التاريخيّ المنتظر، فهذا إنّما يجافي طبيعة الأردوغانيّة نفسها كظاهرة لا تستدرج من الثقة إلاّ أقلّ القليل.
والثقة ليست تهمة شخصيّة. ذاك أنّ النمط الشعبويّ من الزعامات أقلّ أنماط الزعامة ثباتاً على المبادئ. وهو معيار لا يحدّ منه معيار شعبويّ آخر، هو التلذّذ بإيجاد العدوّ وتعزيز العداوة، إذ يمكن العدوّ أن ينقلب صديقاً والعكس بالعكس لأتفه الأسباب. وإذا صحّ أنّ خوان بيرون الأرجنتينيّ مؤسّس الشعبويّة الحديثة لما بعد الحرب الثانية، ولما بعد الفاشيّة، صحّ أنّ سيرة البيرونيّة سيرة تأرجح دائم بين اليمين واليسار، وبين المعسكرين الغربيّ والشرقيّ. فإذا أضيف الموقع الذي لا تُحسد عليه تركيّا الأردوغانيّة في توازنات القوى المحيطة، وبعض ذلك من صنع أردوغان نفسه، جاز أن نتوقّع ارتفاع هواية التقلّب إلى احتراف.
لكنْ إذا كان التقلّب الفائض جزءاً تكوينيّاً من الشعبويّة، فالأردوغانيّة، قبل المحاولة الانقلابيّة وخصوصاً بعدها، تقدّم لهذه المدرسة بعض أبلغ دروسها. فبعد انفجار العُظام الرئاسيّ، وتحطيم سائر الساسة المؤثّرين داخل الحزب الحاكم، تُحكم تركيّا اليوم بهوس التعبئة ضدّ عدوّ فاقت خرافيّتُه واقعيّتَه. فخارجيّاً، هناك «الغرب» وصولاً إلى السويد التي بات الأتراك يُحذّرون من الاغتصابات فيها، وداخليّاً، هناك فتح الله غولن. وربّما كان روجر أوين مُحقّاً في مقارنته بين استخدام جمال عبدالناصر للعدوّ ممثّلاً بـ «الإخوان»، واستخدام أردوغان لغولن. لكنّ البيئة التي عبّأها أردوغان وينوي، على ما يبدو، أن يحكمها بالتعبئة، ذهبت إلى حدّ استعادة خرافة «الدونمة»، تلك الطائفة التي اتّبعت الأزميريّ شابّاتاي زِفي، في القرن السابع عشر، وغدت مصدر التأويل التآمريّ لنصف التاريخ التركيّ الحديث!
والأخطر، في ظلّ ضمور النجاح الاقتصاديّ للنصف الأوّل من عهد «العدالة والتنمية»، تعزيز الشعبويّة عبر تصديع المواقع القياديّة في المجتمع المدنيّ والمؤسّسات العامّة والخاصّة، تعليماً وصحافةً وقضاءً. فهنا، وبذريعة مكافحة غولن، تُرسى مرتكزات الديكتاتوريّة في مجتمع سُرّح واعتُقل الآلاف من كوادره العليا والوسطى. وهذا «الترشيق» المجتمعيّ سبق لتركيّا أن عرفته في 1942، بحجّة الخوف من التوريط في الحرب العالميّة الثانية والاستعداد لذلك. فآنذاك، وفي ظلّ عصمت إينونو، استحدُثت «ضريبة الثروة» التي كانت عمليّاً جزية على رأس المال التركيّ غير المسلم، أي اليهوديّ والأرمنيّ واليونانيّ، ما استكمله انخفاض مريع في أعداد تلك الأقلّيات وسط تعبئة قوميّة تختزن تأجيجاً دينيّاً حادّاً.
وما لبثت أن تبدّت النتيجة اجتياحاً شعبويّاً، باسم مصالح الريف، عبّرت عنه انتخابات 1950: ذاك أنّ «الحزب الديموقراطيّ» الذي أسّسه ذو الهوى الإسلامويّ عدنان مندريس والأتاتوركيّ البالغ اليمينيّة جلال بايار حصد، في ذاك اليباب السياسيّ والمجتمعيّ الذي أفضت إليه التعبئة، 408 مقاعد في برلمان من 487 مقعداً. (وقد روى أردوغان لاحقاً أنّ تسييسه المبكر بدأ بمشاهدته أبيه وهو يبكي على مندريس، حين أعدمه الجيش بعد عشر سنوات).
والحال أنّ أكثر ما يسمّن الشعبويّة قدرة الزعيم على تعطيل المواقع الاجتماعيّة والمؤسّسات، أو تحويلها أشكالاً بلا مضمون، والمضيّ في الاستقطاب الشعبيّ بحجج بسيطة ذات طابع تعبويّ، لا يُعنى أصحابها بالإقناع بقدر ما تعنيهم الصلة البسيطة والمباشرة بالقائد الكاريزميّ، واكتشاف منابت اجتماعيّة تجمعهم به. وعلى رأس جماهير ذات حراك معبّأ لكنّه غير منظّم مهنيّاً أو طبقيّاً، يسع القائد الملهم أن يضرب يميناً ويساراً فيختار العدوّ والصديق على هواه وسط تصفيق مدوٍّ من معجبين مبهورين.
وهكذا، وقياساً بالتحوّل تجاه روسيا وإسرائيل، والغرب والأكراد، يُشكّ كثيراً أن يبقى على حاله السلوك التركيّ تجاه سوريّة، على رغم المآخذ الجدّيّة والأصليّة عليه. أمّا المواقف التي ظهرت مؤخّراً على شكل تقارب مع إيران وروسيا حيال الأكراد، فليس سرّاً أنّ الأسد واكبها بحماسة صبّت حممها برّاً وجوّاً.
*نقلاً عن "الحياة"
** جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.