تحدث كولن باول، وزير خارجية جورج بوش، عن "الشرق الأوسط الجديد"، وتحدثت وزيرته الثانية كوندوليزا رايس عن "الفوضى الخلاقة". هذه الفوضى المرعبة غير خلاقة على الاطلاق، حتى بالنسبة إلى منظّريها. فمن أعمق تداعيات الانهيار السوفياتي على الغرب، ولادة "القاعدة" في أفغانستان، ومن ثم عودة روسيا إلى المنطقة لاعبة الدور الأول. أما الذي يرسم خريطة الشرق الأوسط الجديد، فليس خَلَف الجنرال باول، المستر كيري. بالكاد يدعى إلى مقعد المراقبين.
الذي يحفر الشرق الاوسط الجديد، من الانبار إلى حلب إلى الموصل، هو وزير الدفاع الروسي الجنرال سيرغي كوجوغيتوفيتش شويغو، يرافقه على الأرض الجنرال قاسم سليماني. العراق، لم يعد العراق الذي كان باول يحلم بأن يبدأ منه شرقه الجديد، وسوريا تجاوزت الفوضى إلى مراحل التغيير الديموغرافي، فيما ليس واضحاً لدى أحد إن كانت أميركا خلف روسيا أم إلى جانبها، أم إلى جانب شريكها الايراني أيضاً. فالسيد أوباما يقول شيئاً، والسيد كيري يقول نقيضه.
ذلك أن "الفوضى الخلاقة" التي طلعت بها رايس امتداد لـ"الغموض الايجابي" الذي طلع به هنري كيسينجر. وما دام الوضع العالمي يسميه السياسيون "اللعبة"، فمن قواعدها الأولى ألاَّ تكشف اوراقك، لذلك، لا أحد يعرف، أو يمكن أن يعرف، لماذا اجتمع كيري ولافروف كل هذه المرات، ودائماً عند الروسي. ولماذا يقول أوباما إنه لا يثق بروسيا أو ببوتين، ومع ذلك يرسل الرجل الثاني في الإدارة إلى اقامة شبه دائمة في الكرملين.
لندع النيات السيئة عند اصحابها. لكن النتائج واحدة في كل حال: التواطؤ المشترك، أو السبات الاميركي، ادّيا إلى انهيار الدولة المركزية في المشرق العربي وانطفاء حواضره، وآخرها الحاضرة المشرقية الكبرى، حلب.
انتهى النسيج الحضاري القائم في العراق، وأفرغت مكوناته التاريخية في كل الانحاء، وبسطت خريطة التقسيم. وبعد نحو عقدين من حرث أرض العراق ونسيجه، بدءاً بالاحتلال الاميركي، مروراً بالنحت الايراني، وانتهاء بدمويات "داعش"، سقطت جميع اواصر الدولة العربية، بدءاً بحل الجيش على يد بول بريمر، وانتهاءً بإنشاء "الجيش الشعبي" على يد نوري المالكي وحيدر العبادي. لا فرق بين هوية اليد المُغيِّرة في جرم التغيير ومداه وجوهره.
وفي سوريا تمزَّق أهم نسيج آخر في المشرق. وسواء كان عدد الضحايا مئة ألف أو مليوناً، فقد وُزِّعتْ احقاد الفتنة ومكاره الثأر، لا نعرف إلى اي مدى. ودمار حلب هو الأكثر مغزى ووقعاً. ليست هذه المعركة الأولى من أجل حلب في التاريخ المشرقي الدموي، لكن هذه معركتها الأخيرة كمجمَّع حضاري، وملتقى انساني، وصلة تجارية واجتماعية بين أمم المنطقة.
عندما تشاهد المباني والبيوت التي يدكها سلاح الجو الروسي، تدرك أن هذا ليس قصفاً للمعارضة، بل ردم حلب. لقد ضاعت الاسكندرون بالضم، وها أن شقيقتها تضيع اليوم بالردم. يرتكب ذلك الروس بفظاعة مرعبة، ويشاركهم الاميركيون ببلادة مخيفة، ويمشي العالم أجمع بغباوة في جنازة أحد أهم اركان المشرق.
كانت منارات هذا المشرق، ازمير والاسكندرية وحلب وبيروت. مدن متعددة وملتقيات حضارية تجمعت فيها عصارات الشعوب وآلامها، وايضاً حذاقتها وعبقرياتها. انتهت هذه الصفة في ازمير بعد مذبحة 1922: عشرات آلاف القتلى.
وفقدت الاسكندرية فرادتها الانسانية الكبرى تدريجاً. الاسبوع الماضي كتب الزميل صلاح منتصر في "الاهرام" أن أحد كبار ابناء المدينة ذهب لتمضية اجازة من ثلاثة أسابيع على شواطئها، لكنه عاد في اليوم التالي ليكتب إليه رسالة يقول فيها: لم تعد هذه مدينتي، ولا استطعت التعرف إليها، لقد بلعها جوف الاهمال والتخلف.
يقول فيليب مانسل مؤلف "المشرق"، و"نشوء وسقوط حلب" الصادر قبل أسابيع، إنه لم يبق من حواضر المشرق سوى بيروت. ألف نضوة حصان، والف خرزة زرقاء. "الشرق الاوسط الجديد" يلغي القديم، لكي يقيم شرقاً فيه أسوار وانفصالات ودول صغيرة سوف تستمر حروبها سنين طويلة. ومن سيبني حلب بعد طلعات "السوخوي"؟ ومن سيبني الموصل بعد دولة "داعش"؟ خريطة مفتتة ما بين الطوائف والمذاهب، وامراء الحروب، وتجار الأسلحة، وتجار القوارب، وتجار الموت، وتجار الاعراض. المشرق موغلاً في عصوره الوسطى مستخدماً الانترنت.
ترِد حلب مرتين عند شكسبير. مرة في ماكبث، ومرة في عطيل. وفي المرتين لأن اسمها كان من علامات المدنيّة، كما وردت عنده سلسلة المدن. ونظرة إلى خريطة الاسماء تجد معنى حلب التعددي في معنى المشرق. من عبد الرحمن الكواكبي، إلى ساطع الحصري، إلى حسني الزعيم، إلى عمر أبو ريشة. وقبلهم جميعاً البحتري، الذي سميَّ كذلك لقصر قامته، لكنه كان عملاقاً في الشعر ووصَّافاً مذهل الدقة.
وأما النظام الذي يزوِّد طيّاري "السوخوي" بخرائط البيوت والحدائق والاحياء، فإنه سوف يتفقّدها كما تفقّد حمص، بعد ان يكتمل رمادها وغبارها، ولا تبقى اشلاء تئن وحيدة لأن المستشفيات أيضاً رمّدت، واحداً بعد آخر. ولن يعترض أحد سوى "أطباء بلا حدود"، وما تبقّى من جمعيات إنسانية، في عالم يتنافس في الهمجية، أو في الصمت عنها.
لاحظ الحماسة الجماهيرية لدونالد ترامب، تدرك كم هو ظاهرة طبيعية الاعجاب بالرجل الكاره. يذكرنا بـ JR بطل مسلسل "دالاس"، الذي ضرب جميع الأرقام القياسية: الرجل الذي لا يحترم أحداً ولا يقدر شيئاً ولا يعطف على شيء. عندما حاول منتجو "دالاس" تخفيف الفظاظة في شخصية جي آر، كان الأثر الفوري تراجع المشاهدة.
كان "العراب" من ثلاثة أفلام. الأول حصد خمس جوائز "أوسكار"، والثاني ثماني، والثالث لا شيء. فالأخير حاول تخفيف صورة الشر عن المافيا، والناس تريد الشعور بلذة الإثارة في القسوة والغطرسة والازدواجية و"القوة". وشرح الاخيرة أنها استضعاف للآخر، وسحقه، ومنعه من الاقتراب من الدائرة التي يحفرها لنفسه.
ترامب جزء من ظاهرة وبائية تضرب العالم اليوم باشكال مختلفة وفي أماكن مختلفة بدرجات مختلفة. واعجاب ترامب بفلاديمير بوتين شبيه بالاعجاب الجماهيري بكليهما. جي آر، الاجتماعي الذي لا يرحم، وجي آر السياسي الذي يوجه الضربة القاضية إلى كل ما يتحرك أمامه.
ألم يكن من الممكن، مثلاً، في هذا الحوار غير المتوقف بين أميركا وروسيا، حصر البلاء في سوريا؟ ألم يكن من الممكن اقناع "السوخوي" والبراميل بالحدّ من مدى وحجم وهمجيات القصف النازل بمدينة كأنها كلها "داعش"، وليس فيها مدنيون واطفال وامهات وفقراء ومقعدون ومساكين وبشر لا شيء لديهم، أولاً واخيراً، سوى هذا السقف الذي تفتته "السوخوي" فوق رؤوسهم، كما لو انها تصور عرضاً سينمائياً عن آثار "اليوم التالي" لغارة نووية؟
وضع ترامب سيرته الذاتية تحت عنوان فرويدي: "فن الصفقة". ما هي الصفقة؟ هي أن تربح دائماً، وأن تَستغل دائماً، وإلا ترحم أبداً. ارعبت لغته وبذاءته العالم حتى ان رئيس دولة اجنبية خرج عن كل الأصول السياسية (هولاند) ليستنكر مرشحاً رسمياً للرئاسة الاميركية. كيف يمكن أن تتعامل دول العالم مع رجل يقول أي شيء، ثم يقول عكسه، ولا يخرج على الناس إلا غاضباً ومندداً شاتماً خصومه، لا يُظهر اعتباراً لأي دولة أو فريق أو شعب أو قضية إنسانية، ولا يهمه في الحياة شيء سوى الصفقة؟
*نقلاً عن "النهار" اللبنانية
** جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.