قد تكون أسبقيّة بريطانيا في الثورة الصناعيّة من أسباب أسبقيّتها في الانتقال إلى ما بعد الصناعة، بما يصحبه من ارتدادات سلبيّة مدوّية. وفي تلك العمليّة لعبت الثاتشريّة دور التمهيد. فبتحطيمها الجذريّ والمتسارع للصناعات التقليديّة ونقاباتها وأفكارها، أحرقت المراحل ولخّصت التاريخ.
وعلى عكسنا، فقناعات المجتمعات الحديثة وتنظيماتها تعيش إلى أن ينتهي زمن صلاحها فتموت. واليوم تشير الردّة الراهنة التي جسّدها الخروج البريطانيّ من أوروبا إلى أنّ أحزاب القرن الماضي، وأصولها تعود إلى التاسع عشر، باتت مرشّحة للموت.
فقد انقسم البريطانيّون حيال موضوع مصيريّ، لا إلى محافطين وعمّال، بل إلى باقين ومغادرين، وفي كلّ من الشطرين عمّال ومحافظون. وقد شرع الانقسام التقليديّ إلى حزبين يذوي مع بروز حزبين آخرين هما «القوميّ الاسكتلنديّ» الذي يشكّك بالاجتماع البريطانيّ من داخله، و «استقلال المملكة المتّحدة» الذي يشكّك به من خارجه. وعلى انعطاف كهذا تتسابق الأمثلة في بلدان غربيّة كثيرة أخرى. وبدورها أضافت نهاية الحرب الباردة مساهمتها في تقويض الحزبيّة القديمة. ذاك أنّ الطاقة التعبويّة للحزب اليساريّ ضعفت بسقوط الاتّحاد السوفياتيّ، ما أضعف الطاقة التعبويّة للحزب اليمينيّ الذي أراحته هزيمة «العدوّ الشيوعيّ».
والآن قد يجد المحافظون أنفسهم مهدّدين بوحدتهم، وهو ما ترمز إليه معركة ما بعد ديفيد كامرون، حيث يحتدم الخلاف على أوروبا وعلى صورة الحزب ومستوى الشعبويّة المحتمل والمقبول. ومعروفٌ أنّ محاولة كاميرون قطع الطريق على متطرّفي حزبه كانت سبب الاستفتاء البائس.
أمّا «العمّال»، فمحنتهم عنوانها صراع قواعدهم المتمسّكة بقيادة جيريمي كوربن وبرلمانيّيهم ممّن نزعوا الثقة عنه.
وليس جديداً أن تعيش الأحزاب البرلمانيّة خلافات، وأن تنطوي على أجنحة وتكتّلات. فالمحافظون، إبّان ثاتشر، عرفوا أقلّيّة حادّة النقد لـ «السيّدة الحديد»، تزعّمها إدوارد هيث. لكنّ الخلاف المذكور لم يصدّع المحافظين. أمّا «العمّال» فذهب أبعد، إذ انشقّ عنه، في 1981، بعض قادته وأسّسوا «الحزب الاشتراكيّ الديموقراطيّ» الذي ما لبث أن اتّحد مع «الحزب الليبراليّ» ليشّكلا حزب «الديموقراطيّين الليبراليّين». وهذا بدوره لم يصدّع الكتلة العريضة للحزب، وإن نمّ عن مصاعب التعايش بين اشتراكيّين راديكاليّين واشتراكيّين ديموقراطيّين متأثّرين بالبرّ الأوروبيّ.
الآن تختلف الأمور. ففي حزب العمّال خصوصاً، يبدو التناقض هائلاً بين ليبراليّي المدن ويساريّيها وبين عمّال الشمال والوسط الصناعيّين. فالأوائل مستفيدون من العولمة ومن أوروبا ومؤهّلون لهما، يحاولون دمقرطتهما وتوسيع قاعدتهما بما يفيد الأفقر والأضعف. أمّا الأخيرون فمتضرّرون من التقدّم التقنيّ والتجارة الدوليّة، تصدّعت القاعدة الاقتصاديّة لحياتهم وأصيبت مناطقهم ببوار رسمت أفلام كين لوتش لوحاته المؤثّرة. وإذا كان الأوّلون يتعاطفون مع اللاجئين ويرون في الهجرة مصدر ثراء، مكافحين النزعات العنصريّة والأبويّة والذكريّة، فالأخيرون يعتصمون بالقوميّة، ويغازلون كره الأجانب الذين يعتبرونهم منافسيهم، وهم أبويّون وذكريّون وتقليديّون لا يعنيهم المجتمع التعدّديّ وأسئلته.
وهو ما نجد مقابلاً له في الحزب الديموقراطيّ الأميركيّ، ما بين هيلاري كلينتون التي تخاطب الهموم العنصريّة والثقافيّة التي يطرحها التعدّد، وبيرني ساندرز الذي يخاطب الهموم الاقتصاديّة للعامل الأبيض.
وهذا صدع يصعب رأبه، لا سيّما أنّه ينعطف على فوارق إيديولوجيّة بحتة تطاول مدى الجذريّة الذي يجوز لليساريّة أن تبلغه، وعلى انشطار قوميّ مرشّح لأن يزداد حضوراً. وليس بلا معنى أنّ حزب «الاستقلال» الشوفينيّ قضم مواقع عمّاليّة تقليديّة في المناطق الصناعيّة للشمال والوسط الإنكليزيّين، بالمعنى الذي شهدناه في فرنسا من تمدّد «الجبهة الوطنيّة» في مناطق عمّاليّة توالي الشيوعيّين تقليديّاً. ومقابل قضم «القوميّ الاسكتلنديّ» مواقع عماليّة في اسكتلندا، فـ «العمّال» في المدن وفي الجنوب الانكليزيّ الغنيّ لم يعد يميّزهم الكثير عن «الديموقراطيّين الليبراليّين».
وإذا صحّ أنّ كل حزب ائتلافٌ بين مصالح وأفكار، فالائتلافات باتت صعبة في ظلّ تلك الانشطارات، وهي تكفّ عن الاشتغال بما يتجاوز القضيّة العابرة التي يلتقي البعض حولها ثمّ ينفضّون في مواجهتهم قضيّةً أخرى.
لهذا يبالغ خصوم كوربن ويبسّطون حين يردّون الأزمة إليه، بقدر ما يبالغ أنصاره ويبسّطون إذ يتحدّثون عن «مؤامرة بليريّة» على الحزب. فالمسألة الأمّ أنّ تلك الحزبيّة تعيش نهاياتها، وربّما بات من الحكمة التعوّد على أشكال جديدة لممارستها في البلدان الديموقراطيّة، أو على أشكال جديدة لتدخّل المواطنين في شأنهم العامّ.
* نقلا عن "الحياة"