معروف أن أعتى قاض شرعي ، وأكبر مأذون رسمي ، لن يستطيعا إتمام عقد النكاح ، ما لم يسمعا كلمة الموافقة من ذات العروس نفسها ، وليس من ولي أمرها ، الذي يفترض به أن يكون وكيلها في هذا الموضوع ، ولهذا دلالة وهي أن صاحب العلاقة فقط هو الذي يمرر الصفقة أي صفقة ، وأعنى بالحديث ما يتعلق بالقضية الفلسطينية التي تنتظر الذبح من الوريد إلى الوريد بسكين عربية ثلمة.
ما أود قوله من خلال هذه المقدمة أن أحدا مهما كان وضعه الدولي ، أو منصبه السياسي ، أو ثقله العسكري ، أو ثراه المالي ، يستطيع التوقيع على شطب القضية الفلسطينية ، في حال أصر صاحب القرار الفلسطيني على عدم التوقيع على صك الإستسلام ، ولنا في الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني الراحل بالسم ياسر عرفات ، خير مثال على ذلك.
لقد سجل الراحل عرفات موقفا متفردا لن ينساه التاريخ ، وهو أنه رفض التنازل والتوقيع على أركان القضية الفلسطينية الرئيسية وهي حق العودة والقدس ، رغم كل ما تعرض له من قهر وإذلال ، وقد واجه الموقف برجولة وفوّت على المتربصين بالقضية سوءا الظفر بتوقيعه .
ففي قمة كامب ديفيد 2000 التي حضرها كل من الزعيم الفلسطيني عرفات ، والرئيس الأمريكي الأسبق "أبو مونيكا" بيل كلينتون ، ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك ، وإستمرت لأسبوعين ، وجرت في ظروف قهرية وعصيبة بالنسبة للوفد الفلسطيني ، حاول الأمريكان والإسرائيليين الضغط على الرئيس الفلسطيني عرفات ، بشتى الطرق ، ومنها محاولة إغتياله في "التواليت" ، إذ إغتنموا فرصة دخوله "التواليت" وأقفلوا عليه الباب بالمفتاح من الخارج ، ظنا منهم أنه سيموت قهرا وغيظا وكمدا ، ولكن الله سلم ، وكانت إرادة الله أقوى.
بعد خروجه من "التواليت" صادر الأمريكان هواتف الوفد الفلسطيني وفي المقدمة هاتف الرئيس عرفات ، حتى لا يتصلوا بأحد أو يتصل بهم أحد من الخارج ، في محاولة للتضييق عليهم ، وقطع الصلة لهم بالخارج ، ومع ذلك لم يبدل الرئيس عرفات موقفه ، وأصر على أنه صاحب حق ، وأنه لن يتنازل أو يساوم على هذا الحق ، ولم يستجب لكافة ضغوطهم.
طلبوا منه التنازل عن حق العودة ، فأوهمهم بالموافقة ، ورحب بالفكرة ، وعندما وضعوا له الأوراق التي سيوقع عليها أمامه ويثبت تنازله عن قضية شعبه ، ضحك وقال : احضروا لي توقيع السيد عصمت عبد المجيد ، وعندها سأوقع ! فأخبروه أن عصمت عبد المجيد مصري ، وأنهم يتحدثون في شأن فلسطيني ، لكنه أجابهم بحنكة صانع القرار الذكي : إن حق العودة واللاجئين هي قضية عربية ، وأن السيد عبد المجيد هو رئيس الجامعة العربية ، فإن وقع العرب عليها فإنه سيصادق على توقيعه .
بعد ذلك طلبوا منه التوقيع على التنازل عن القدس والأقصى ، فكرر نفس اللعبة عليهم ، وأعلن موافقته على ذلك ، وعندما وضعوا الوراق أمامه للتوقيع عليها وتثبيت تنازله ، قال لهم أن عليهم أن يحضروا توقيع الرئيس الإيراني محمد خاتمي ، فجن جنونهم وقالوا له أن السيد خاتمي إيراني ، وأن القدس فلسطينية ، لكنه أجابهم بذكاء القائد المحنك ، أن القدس قضية إسلامية ، وأن السيد خاتمي هو رئيس قمة المؤتمر الإسلامي آنذاك ، فإن وقع المسلمون ممثلين بخاتمي على بيع القدس ، فإنه سيصادق على توقيع السيد خاتمي.
عندها جن جنون الأمريكيين على وجه الخصوص لأن كلينتون تعهد لباراك أنه سيحشر عرفات ويحصل منه على تنازلات لإسرائيل ، مقابل قيام إسرائيل بطي ملف "مونيكا"، التي وضعوها أمامه وورطوه معها وفيها والقصة معروفة للجميع ، كيف نصحه محاموه اليهود أن ينكر وينفي صلته بها ، إلى أن أحضروا له فستانها الأزرق وعليه بقع حيواناته المنوية .
قام مدير السي آي إيه آنذاك جورج تينيث بتهديد الرئيس عرفات بالقول :ألا تعلم أن أمريكا تغير الحدود والرؤساء ؟ وقد صرخ الرئيس عرفات في وجهه وقال مخاطبا الرئيس كلينتون : سامع يافخامة الرئيس ، إن تينيث يهددني بالقتل وانا أدعوك لحضور جنازتي ! ولكن كلينتون طلب من مصوره الخاص أن يلتقط له صورا مع القادة الفلسطينيين الجدد ومن ضمنهم محمد دحلان .
ومع ذلك عاد الرئيس عرفات إلى مقاطعة رام الله طاهرا مطهرا من دنس الخيانة ، ولم يوقع ، ولم يرضخ للضغوط ، وإندلعت إنتفاضة جديدة أطلق عليها إنتفاضة الأقصى جرى عسكرتها ، وسارعت إسرائيل إلى إنهائها ، وقد تقرر وضع السم ل"العجوزين " عرفات وشارون ، وتم قتل عرفات ، لكن العقيدة اليهودية تحرم قتل اليهودي ، فإكتفوا بتغييبه عن الواقع وعاش فترة على الأسلاك والمغذيات إلى أن فارقت روحه الحياة.
الكل من "العرب" يريد حل مشاكله الداخلية على حساب القضية الفلسطينية ، والكل مازوم هذه الأيام ، ويريد بيع القضية الفلسطينية بثلاثين من النحاس الخردة ، عل وعسى ان يجد له قبولا عن مستدمرة إسرائيل وأمريكا ، ونسمع في الأخبار أنهم يعملون على إعادة كتابة ما أطلقوا عليها سابقا "مبادرة السلام العربية " التي تبناها مؤتمر قمة بيروت 2002 ، ورفضها عربيا الرئيس اللبناني الأسبق الرئيس المقاوم إيميل لحود ، فيما ركلها شارون بقدميه ورد على أصحابها بإعادة إحتلال العديد من المدن الفلسطينية ، وكانت تدعو إلى المصالحة مع إسرائيل وتعهدت بجلب كافة الدول العربية والإسلامية وعددها 57 دولة للتطبيع مع إسرائيل ، وفتح فضاءاتها الأرضية والمائية والجوية أمام إسرائيل .
سؤالي :هل القيادة الفلسطينية الحالية قادرة على المواجهة ؟ فإن كانت قادرة فمرحبا بها ، وإن لم تكن فلتغادر مواقعها حفظا لماء الوجه ، وحتى لا يقال أن الفلسطينيين تنازلوا عن حقهم ، كما قيل زورا وبهتانا أنهم باعوا أرضهم !!