عدوّ المصريين الأول ليس الإرهاب، ولا المعارضة، بل الاقتصاد الذي حكَت عن إصلاحه كل الحكومات المتعاقبة ولم تنجح فيه كثيرًا. وهو العدو الوحيد القادر على هزّ أركان الدولة من جديد واستحضار الفوضى، أكثر من كل الخصوم الذين يواجهونها عسكريا ودعائيا، مثل جماعة الإخوان والجماعات المسلحة المعارضة.
ومع هذا، يظل الاقتصاد هو الممكن الوحيد هزيمته بين التحديات المختلفة التي تواجه مصر، والمعركة المهمة التي يمكن أن تغير الحاضر إلى الأفضل. وقد سبق للحكومة أن تحدثت عن مرحلة جديدة للبناء، وافتتحت عهدها بوعود شرعت في إنجازها. توجد مشاريع كبيرة ربما لا تكفي لإنقاذ الاقتصاد مع تزايد الأعباء واستمرار الصعوبات، ربما يوجد هناك برنامج كبير لا ندري عنه، سيبني اقتصادًا يرضي طموحات تسعين مليون نسمة. نحن نثق بقدرة مصر لأنها تملك سوقا هائلة، وهي اليوم الدولة الثانية الأكبر اقتصادا في أفريقيا بعد نيجيريا، مع هذا تفقد ثقة الشركات العالمية بها، إما نتيجة الدعاية السياسية ضدها، أو بسبب عجز البيروقراطية الحكومية عن الانفتاح، أو بسبب التضييق على المستثمرين القلة الذين خاطروا بمصالحهم وجاءوا للعمل في مصر.
وهذا لا يقلل من الإنجازات التي حققت حتى الآن، فقناة السويس الجديدة شقت في عام واحد، عمل هندسي وإنشائي ضخم، وكان امتحانا مهما لإرادة الدولة نجحت فيه. والسؤال التالي: هل لدى الحكومة أفكار جديدة؟
كل الحكومات المصرية قدمت وأنجزت مشاريع متعددة، لكن أيا منها لم تطرح مشروعا لتطوير اقتصاد البلاد، وظلت الوعود على مدى عقود بالانتقال والتنمية، لكن لم يتحقق الشيء الكثير. ويجب أن نستثني منها تجربة التغيير الأولى، تلك التي قادها الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، عندما أعلن عن تبنيه الانفتاح، كجزء من مشروع التغيير السياسي الذي أعقب اتفاق كامب ديفيد. وقد سبق به الرئيس الراحل السادات بقية الدول الاشتراكية التي لحقته وسارت في نفس الطريق، وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي ثم دول أوروبا الشرقية الاشتراكية.
الفارق أن حكومات مصر المتعاقبة لم تكمل مشوارها في الإصلاحات والتنمية، بخلاف دول مثل بولندا وبلغاريا وغيرها. والذي أبطا من مسيرة التنمية أن التركيز في القاهرة تمحور على مواجهة التحديات السياسية. وقد جرّب الرئيس الأسبق حسني مبارك وضع خطة انتقال إصلاحية طموحة، لولا أنها خرجت عن سكة العمل نتيجة المعارك السياسية والإدارية. ركز مبارك جهوده على لعبة التوازنات السياسية، مع المعارضة في الشارع، والقوى الحزبية داخل النظام، والقيادات داخل الحكم نفسه. وهكذا مرّت السنوات حتى وجدت الحكومة نفسها لا تستطيع تلبية متطلبات الشارع المعيشية، في وقت كانت المعارضة السياسية تتربص لحظة التغيير، وبالفعل جاءت لحظة الانقضاض في عام 2011.
عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي افتتح بالحديث عن التطوير والتغيير والمعيشة والازدهار، لتمثل الفرصة الثالثة منذ نهاية النظام الاقتصادي الاشتراكي في السبعينات من القرن الماضي. مصر وعدت أن تكون جاذبة للاستثمارات الدولية، وهذه تتطلب إصلاح التشريعات أولا، وتحتاج إلى وضع مشروع اقتصادي متكامل يكون خريطة طريق لها.
مصر قادرة على الصعود بإمكاناتها ومواردها الكبيرة، لكن نخشى أن ينجح خصوم الدولة في تشتيت انتباهها، وإشغالها بالتحديات السياسية. ونحن نعرف أن المعارضة المصرية، والصراعات الإقليمية، وكذلك الإشكالات الحكومية الإدارية في الداخل كافية لاستهلاك طاقة الحكومة وصرفها عن الوعود الأهم. ولا يمكن أن نقلل من حجم الأذى الذي تلحقه المعارضة باقتصاد البلاد، فالسياحة التي هي من أهم الموارد المالية تراجعت نحو ستة وستين في المائة، في الربع الأول من هذا العام، ولا شك أن الإرهاب سبب في ذلك. كما أن انخفاض سعر البترول يؤثر على مصر مرتين، فهي من ناحية دولة بترولية تعتمد على بيعه للحصول على العملة الصعبة، ومن أخرى تعتمد عليه الأيدي المصرية العاملة في الدول النفطية.
وفي كل الأحوال سيكون وضع مصر صعبا من دون تنفيذ الإصلاحات، التي تجنبت تنفيذها الحكومات السابقة، وأولها تحديث التشريعات التي يعزى إليها نفور المستثمرين العالميين. نجاح مصر اقتصاديا يجعلها دولة قوية مؤثرة، وليس فقط قادرة على الوفاء بالتزاماتها الداخلية.
صحيفة "الشرق الأوسط"