محطة القطار تعج بالحركة، قطارات تروح وقطارات تذهب، بعضها حديث فاره، وبعضها قديم لكنه يسير على أية حال، الا قطارا واحدأ متوقفا منذ زمن لا يبارح مكانه، صدئت سكته و " كربجت" عجلاته.. عرباته تحتجز خلقا كثيرا، يصارعون الزمن، ليدفعوا عربتهم وتسير مثلها مثل باقي القطارات في المحطة، لكن دون جدوى.
كان ضجيجهم عاليا داخل كل عربة، منهم من كان غاضبا رافعا صوته، ليجعل كبير العربة يسمعهم ويفعل شيئا يدفع عربتهم على السكة ليصلوا وجهتهم.. والكثير منهم من كان غاضبا من غضب الغاضبين، لأنهم يزعجون كبير العربة وحاشيته، وأنهم يعطلون المسيرة، ويؤثرون على حركة القطار الذي يرون أنه يمخر عباب الفضاء ويطوي الصحاري ويجوب المفاوز سائرا بالاتجاه الصحيح تحدوه رؤية الكبير وحكمته وذكاؤه الذي قل نظيره!!!
خرجت مجموعة من كل عربة لتستطلع الأمر، هل كان القطار سائرا بحكمة الكبير أم هو متوقف وما الحركة التي يحسونها الا حركتهم هم واهتزازهم هو الذي يهز العربة المتوقفة، أم أن الكبير وحاشيته يكذبون عليهم ويضللونهم ويقتلون مستقبلهم!!.
لم تبذل الفرق الخارجة من العربات جهدا كبيرا لمعرفة أن العربات متوقفة، وكلما ابتعدت تلك الفرق عن ذلك القطار المنكوب اتضحت لها الرؤية وانكشف لها الواقع، واذا بالقطار من أول عربة الى آخر عربة متوقف تماما، وأن العربات تقف على السكة بلا حراك الا من اهتزاز بين الفينة والأخرى ناتج عن حركة الركاب، وأن الركاب الذين يرون القطارات الأخرى لا تسير من حولهم وهم وحدهم السائرون، أصابهم الزيغ في النظر، وتأثروا بالتنويم المغناطيسي الذي مارسه الكبير عليهم في كل عربة حتى ظنوا أن القطارات التي تمر مسرعة بجانبهم هي في الحقيقة متوقفة، وهم السائرون، وأنهم في نعمة يحسدهم عليها ركاب القطارات الأخرى، الذين يعيشون في وهم أنهم سائرون دون أن يدركوا حقيقتهم المرة بأنهم جالسون صامتون لا يتحركون ولا يصخبون ولا يهتفون ويغنون لكبير عرباتهم، وهؤلاء البلهاء الصامتون حتما أن كبيرهم لا يحفزهم ولا يرعى صراخهم المدوي، وقد لا يسيرون في الاتجاه الصحيح.
أما هم فرغم المحن والظروف الصعبة والمنحنيات المفاجئة، يسيرون في الاتجاه الصحيح على هدي من كبيرهم صاحب الزمان، المطلع على أسرارهم ، وصاحب الرؤية التي تستشرف المستقبل وتزوى له الكرة الأرضية حتى يرى ما يحصل في كل جانب منها وهو في مكانه! ويوظف كل هذه الحكمة في وضع عربتهم على الطريق القويم، ويسير بها الى محطتها الموعودة بثقة وثبات، حتى لو طال السفر وتأخر الوصول قرونا.
أما ما ينعق به الناعقون، ويتحدث به المرجفون الحاقدون، والمارقون الظلاميون، من أن العربة متوقفة ما هو الا هراء وحقد ينفث سمومه كل موتور أعماه الحقد والانتقام.
زوى أحد الخارجين من العربات بنظره كل العربات، حاول أن يكتشف سبب توقفها عن المسير، فلم يفلح، فاتجه الى مقدمة القطار لعله يحفز القائد على الانطلاق، تعثر كثيرا في طريقه وعندما وصل صعق من هول المفاجأة فالقطار بلا رأس، وليس له محرك، لم يجده مكانه وليس له أثر، القطار عربات فقط بلا رأس.
سأل أحدهم وهو كالمذعور، عن سر هذا الأمر الخطير، أجاب باقتضاب، إن رأس هذا القطار صادره أسياد المحطة منذ زمن!!
- لكن من هؤلاء الذين يجلسون مع الناس في كل عربة يوهمونهم أنهم قادة كل عربة وأن العربات تسير وسوف يصلون الى وجهتهم قريبا؟
- قال المسؤول وهو لا يستطيع كتم قهقهته، انهم مهرجون يعملون مع أسياد المحطة وضعوهم كي يعطلوا الناس ويمنعوهم من الشغب على أسياد المحطة.
عاد الرائد الى العربات ونادى بأعلى صوته، أنتم متوقفون، المهرجون يضللونكم ، اقتلوهم افعلوا شيئا.. لكن كانت صرخته في واد سحيق، فركاب العربات مشغولون بالهتاف والغناء للمعجزة التي أمامهم، ولا يستمعون لأصوات الخارجين من العربات.