التربية والتعليم كأداة لمحاربة التطرف والإرهاب

mainThumb

26-01-2016 02:50 PM

 ‏ تتعدد الدوافع التي تضطر الشباب الى الانضمام الى الجماعات المتطرفة، وهي تمثل في ‏مجموعها مناخ إنتاج العنف ضد الدولة والمجتمع، وتتمثل هذه الأسباب في غياب العدالة ‏الاجتماعية، وشيوع خطاب التكفير، وتفكك الروابط الاجتماعية، وتراجع خطاب الإصلاح الديني، ‏وضعف دور المؤسسات الثقافية، وغياب المشروع القومي.‏

 

‏ يمثّل العقل المتطرف الثمرة المرة لميراثين ثقيلين يجثمان على حاضر مجتمعاتنا وثقافتنا: ميراث ‏ثقافي تكفيري حفل به تاريخ الإسلام، وناهضته تيارات العقل والاجتهاد والتسامح، وميراث ‏اجتماعي – اقتصادي- سياسي معاصر من الحيف والتهميش والاستبداد، كانت مجتمعاتنا ‏عرضة له، واجتمع الميراثان معا في تكوين ظواهر اجتماعية شاذة وكارثية عدة منها ظاهرة ‏الجماعات التكفيرية.‏
 
كيف نواجه التطرف؟
 
‏  هناك إجابة تقليدية تتمثل في استخدام الوسائل الأمنية والقمعية والسياسية والتي ثبت عقمها، ‏فكل الوسائل الأمنية والسياسية يمكن أن تكون فاعلة على المدى القصير، إلا أنها على المدى ‏الطويل لا تنجح في استئصال العلة الأساسية المنتجة لهذه الظاهرة التي عادة ما تكون متصلة ‏بجذور ثقافية من خلال تأويلات مغالية للنصوص، وبجذور اجتماعية ناتجة عن ارتفاع معدلات ‏البطالة، والأمية، وفشل مشاريع التنمية وغيرها من المسائل المتعلقة بغياب الحريات والعدالة ‏والمساواة بين المواطنين.‏
 
‏ إنّ مشكلة التطرف والإرهاب والعنف تنشأ من أسباب اجتماعية عميقة، لا يمكن القضاء عليها ‏بتصفية أعراضها، وإنما باستئصال الأسباب والجذور التي ولدتها وأنبتتها. وهكذا ما لم تتقدم ‏مجتمعاتنا العربية في السعي نحو إنتاج نظام سياسي حديث يكفل حقوق المواطنة، والحريات ‏العامة، والمشاركة السياسية، وما لم تهتد الى وضع حد للفساد، وهدر الثروة والمال العام، ‏وتحقيق التنمية المتوازنة، والحد من الفوارق الطبقية الفاحشة، عبر إعادة توزيع الثروة توزيعاً ‏عادلاً، فلن يكون في الوسع إنهاء ظاهرة كبيرة وخطيرة مثل ظاهرة التكفير وجماعاته السياسية ‏والمسلحة.‏
 
‏ وفي تقديري أن من أبرز الأسباب إضافة لكل ذلك هو اختراق الفكر المتطرف لنظام التربية ‏والتعليم بكل مؤسساته. وهو اختراق يساعده أن التعليم في بلادنا لا يزال في غالبه يقوم على ‏التلقين وليس على الفهم والتساؤل والحوار بين الأفكار، أي أنه يقوم بصياغة العقل الاتباعي لا ‏العقل النقدي، وهذا ما تقوم بترسيخه بصورة مباشرة الأنظمة المستبدة، لان العقل الاتباعي ‏يتكيف مع مفاهيم الطاعة والانقياد، أما العقل النقدي فمتمرد ومتسائل بطبعه.‏
 
لا شك أن المؤسسة التربوية العربية قد التقطت بشكل أو بآخر جرثومة "التعصب" وآفة "التطرف" ‏الديني، وهذا معناه أن المؤسسة التربوية بدلاً من أن تساعد المجتمع العربي على المواجهة ‏العقلانية فإنها أضافت الى مشكلاته تحديات جديدة.‏
‏ وعلى المستوى الثقافي والتربوي فان حصار هذه الثقافة وتصفية وجودها يتطلب عملاً ثقافياً ‏طويل المدى، يبدأ من البرامج التربوية والتعليمية في المدارس وخاصة في مواد التربية ‏الإسلامية، والتربية الوطنية، التاريخ، واللغة العربية على وجه الخصوص، والتي يتأهل بها وعي ‏الناشئة.‏
 
‏ والسؤال المطروح في هذا المجال هو : كيف يمكن للمؤسسة التربوية العربية أن تعزز قيم ‏التسامح في مواجهة التعصب والتطرف في مجتمعات لم تتعزز فيها تقاليد الديمقراطية بعد، ‏خاصة تقاليد الاعتراف بالآخر، والتمثيل الشعبي، ومشاركة المجتمع المدني، حيث تغيب عملياً ‏مبادئ حقوق الإنسان، بل والأطر التنظيمية الناظمة للتعددية السياسية في المجتمعات العربية.‏
 
‏ والمدرسة العربية هي انعكاس لكل ذلك؛ ففيها مبدأ الطاعة العمياء حيث تتم إعادة إنتاج قيم ‏ومعايير المجتمع التي تحافظ على وضعية القهر الاجتماعي. وتتكامل المدرسة مع أساليب ‏التنشئة الاجتماعية السائدة لتبني منظومة قيم متكاملة تكمل المناخ التسلطي العام، حيث يفرض ‏الآباء على الأبناء أنماط سلوكهم وحركتهم ولا يسمح لهم بإبداء الرأي أو الاعتراض.‏
 
‏ إن التربية يمكن ان تلعب دوراً محورياً وفي غاية الأهمية والموضوعية في قيام منظومة آمان ‏قيمية ترسخ قيم التسامح والدعم النفسي والتعزيز والمساندة والتفاهم والحوار بين أطراف العائلة، ‏خاصة بين الآباء والأبناء، والتربية على الحوار والاعتراف بالرأي الآخر والحق بالاختلاف، وهذا ‏هو الجوهر الأخلاقي للدين الإسلامي الحنيف.‏
 
‏ إنّ التطرف والتعصب ظاهرة مرضية، وأفضل علاج لها هو الوقاية الصحيحة، والوقاية الصحيحة ‏يجب أن تركز على التعامل العقلاني الذي يستهدف تصحيح الاختلالات الاقتصادية والسياسية ‏والاجتماعية، وإشاعة الفكر النقدي والمشاركة في كافة مجالات الحياة وبدءا بالمؤسسة التربوية.‏
 
لا مهرب من إقرار سياسة تعليمية تقوم على مبدأ التربية على قيم التسامح،والمواطنة، والعقل، ‏والتفكير الحر، وعدم تقديس نصوص القدامى أو رفعها من مرتبة الرأي الى مرتبة النص الديني ‏الملزم، ونبذ التعصب، واحترام الرأي الآخر، ومواجهته بالحوار والحجة، ونبذ العنف بما فيه العنف ‏اللفظي. ولا بد من أن تجد هذه المنظومة من القيم مكانها في البرامج الدراسية المقررة في ‏المدارس والجامعات، من أجل أن تتشبع بها الأجيال الجديدة والقادمة، وتتحلى بها في التفكير ‏والسلوك.‏
 
ولا بد من العمل على تشجيع الأسر على تبني أساليب التربية الحديثة التي تحض على النقاش، ‏وحرية المبادرة، والتفاهم المشترك، وإتباع المنطق العلمي في مجريات الحياة اليومية كافة، ‏والتعامل مع الآخرين.‏
 
ولا بد في الوقت نفسه من أن يصار الى إصلاح منظومة تكوين المعلمين والأساتذة، وتمكينهم ‏من التأهيل العلمي والتربوي الحديث لتأدية أدوارهم التعليمية على النحو الأمثل. كذلك من ‏الضرورة بمكان القيام بمراجعة نقدية للمناهج الدراسية، من خلال لجان من الباحثين في علوم ‏التربية، بحيث يتم تخليصها من كل ما يتعارض مع العقل والقيم العصرية.‏
 
‏ إنّ ديمقراطية التعليم تستلزم ضرورة الربط بين التخطيط التربوي والتخطيط الاجتماعي الشامل، ‏القائم على استراتيجية تنموية تشاركية، للانتقال بالنظام التربوي – أفعالاً وممارسات ومضامين- ‏من وضعية إسهامه في إعادة إنتاج التمييز التربوي والاجتماعي، الى وضعية يتجه فيها أكثر ‏نحو ديمقراطية التعليم من جهة، وتدعيم المشروع الديمقراطي والتنموي في المجتمع من جهة ‏ثانية. وعلى ضوء ذلك فان أوضاع التردي والتدهور التي يعيشها نظامنا التربوي العربي يشير ‏الى أننا ما زلنا بعيدين عن جعل مؤسساتنا التربوية قادرة على أن تكون دعامة للبناء الديمقراطي ‏كمشروع مجتمعي وحضاري عام.‏
 
‏ ويظهر ذلك واضحا في ظهور بعض الأعراض السلبية على بنية وتفكير الإنسان العربي، ‏وانعكس ذلك على سلوكياته، فاتسمت بالفردية والسطحية في التفكير، وضعف الرغبة في العمل ‏والإنتاج، وقلة الانضباط، وانتشار مشاعر اللامبالاة وعدم تحمل المسئولية، هذا فضلا عن ‏أحادية الرؤية في تفسير الأحداث والدوافع الكامنة ورائها. وفي اغلب الأحوال لا مكان لحسن ‏النية والحق في الاجتهاد عندما يكون التعامل مع الآخر من موقف الاختلاف في الرأي والتباين ‏في تقدير الظروف
‏ إنّ المدرسة هي المعمل الذي يصنع فيه المواطنون، وعلينا أن نقرر أي نوع من المواطنين نريد ‏لمجتمعاتنا: هل نريد مواطنين ايجابيين متأهلين علمياً يخدمون مجتمعهم والدولة، أم مواطنين ‏يطّلقون شعبهم ودولتهم ويمتشقون في وجهها السلاح باسم الكفر والإيمان؟ وفي ضوء هذا ‏السؤال يتقرر أي نوع من التعليم والتأهيل نحتاج إليه.‏
 
‏ وليس يسع البرنامج التعليمي وحده أن ينجز هذه المهمة الكبيرة، وإنما ينبغي الى جانب ذلك ‏إطلاق برنامج ثقافي تنويري شامل في المجتمع يرسخ تلك البذور، من خلال إشاعة ثقافة ‏تنويرية تصحح النظرة الى الإسلام وتعاليمه. إنّ المفكرين والباحثين والأدباء والمبدعين هم من ‏يقع عليهم أن ينهضوا بأداء هذا الدور، وانجاز هذا المشروع الثقافي التنويري، لأنهم حملة ‏الأفكار ومنتجوها.‏
 
‏ ولعلماء الدين دور في المعركة ضد التكفير، وهو يبدأ من التكوين في المدارس الدينية- في ‏البلدان العربية التي فيها هذا النوع من المدارس- الى التأهيل في الجامعات الخاصة بالعلوم ‏الشرعية، والى خطب الجمعة والفتاوى والتأليف في الموضوعات الدينية، ناهيك بالمجلات ‏والدوريات التي تشرف عليها وزارات الأوقاف ودور الإفتاء والمجالس والهيئات العلمية الدينية.‏
 
‏ وما لم تجر إعادة نظر شاملة في طرائق التفكير ومناهجه، لدى علماء الدين، وفي كيفية تكوين ‏الأجيال الجديدة منهم، وما يقترن بهذا التكوين من فتح وعيها على آفاق المعرفة الإنسانية ‏المعاصرة، فان دور هذه الفئة سيؤول الى الزوال، وستحتل مكانتها تيارات الإسلام الحزبي التي ‏تعرف كيف تخاطب ضائقة الناس ومظلوميتهم.‏
 
وأخيراً، فان لفئة الإعلاميين والصحفيين دور كبير في التدليل على خطورة ظاهرة الغلو والتكفير، ‏والتنبيه الى سبل مواجهتها، ويجب أن يقترن ذلك بإفساح مساحة معتبرة، في المنابر الصحفية ‏والإعلامية، للمادة الفكرية التي يقدمها باحثون مختصون في الدراسات الإسلامية، وتاريخ الفكر، ‏وعلم الاجتماع الديني، وعلم الأديان المقارن، من خلال برامج حوارية، أو مقابلات، أو ندوات ‏وحلقات نقاشية.‏
 
‏ إنّ التغذية المالية والسياسية لقوى التكفير فصل خطير من فصول السياسة العربية المعاصرة، ‏بل لعله أخطر فصولها جميعاً؛ إذ يكفي انه قاد الى تخريب أوطان، وإنشاب فتن وحروب أهلية ‏في جسم المجتمع والدولة، وما لم تتوقف هذه السياسة الخرقاء، ويتوقف معها إنتاج التكفير في ‏المدارس والجامعات، فلن تتوقف معاناة هذه البلدان العربية مع ظاهرة تذكّرها بأسوأ ما في ‏ماضيها.‏
 
ملامح رؤية تربوية لتحسين الواقع التربوي في مجال المناهج وطرق التدريس
 
تركز المناهج الحالية على الحفظ والاستظهار، وافتقارها الى الفكر النقدي والعلمي المتجدد، الى ‏جانب انشغالها بتقديم المعرفة المجزأة. ولكي تتوافق هذه المناهج مع توجهات الفكر التربوي ‏المعاصر، وتكون قادرة على بناء وتربية الإنسان القادر على التعايش في ظل التحولات العالمية ‏منها والمحلية فإنها يجب أن تسعى لتحقيق ما يلي:‏
 
‏1-‏ تحديث مناهج التعليم وتطويرها باتجاه فتح مضامينها على ثقافة حقوق الإنسان، ‏وتكريس قيم التسامح وتعزيز المشاركة، واحترام الآخر، ونبذ العنف، والاعتراف بالحق ‏في التنوع والاختلاف، وإعلاء روح الجماعة والمصلحة العامة بدلاً من الأنانية والتطرف ‏والانغلاق.‏
 
‏2-‏ تركيز المناهج الدراسية على تدريب الطلاب على تطبيق منهج النقد المجتمعي الذي ‏يعتمد على الدقة والموضوعية، وتنمية مفاهيم ومهارات النقد المعرفي والعلمي لدى ‏الطلبة.‏
 
‏3-‏ تضمين المناهج الدراسية لمحتويات تعليمية تدعو الى إعادة الإنتاج المجتمعي، وتقديم ‏ثقافة واعية بمشكلات المجتمع، بغية تكوين إنسان لديه وعي اجتماعي وقادر على ‏المشاركة الايجابية في حل مشكلات مجتمعه.‏
 
‏4-‏ تصميم المناهج بطريقة تركز على فلسفة التعلم الذاتي، والتي تعين المتعلم على الاهتمام ‏بدوره الفعال وبمشاركته المباشرة في التعليم، وتغيير دوره من متلق سلبي الى مشارك ‏فعال وباحث عن المعرفة، وناقد لها، بل ومقوم لنتاج جهده وتحصيله.‏
 
‏5-‏ التنويع في طرق واستراتيجيات التدريس لتمكين المتعلم من ممارسة التفكير النقدي، ‏وذلك من خلال أنشطة تعليمية مختلفة تعتمد على العصف الذهني، والتعلم النشط، ولعب ‏الأدوار، والتعليم التعاوني، لمساعدة الفرد المتعلم على تنمية قدراته على التعبير وإبداء ‏الرأي، والتحاور مع الآخرين، وإعمال العقل، وتنمية خياله العلمي، وتنمية قدرته على ‏الاكتشاف.‏
 
 
مشرف تربوي


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد