لا أظن أن القرارات التسعيرية التي أعلنتها الحكومة السعودية هي حالة شد حزام، كما ردد البعض. قالوا إنها مؤقتة استجابة للهبوط المريع لأسعار البترول، حتى يتم تعويض بعض الخسائر الضخمة التي منيت بها الحكومة، مثل بقية الدول المنتجة الأخرى، لكن، وفق ما أعلن، الأسعار تصحيحية وليست تقشفية.
الحكومة ظلت تفضل الحل السهل، فتدفع فارق أسعار السلع، وتوفر الوظائف حتى تضخمت تكاليفها، في وقت قد لا يجود النفط بأسعاره الكريمة القديمة نفسها. الحل الصعب هو تطوير الاقتصاد، حتى يكون واقفًا دون الاعتماد كثيرًا على مداخيل البترول. ودون مواجهة حقائق المرحلة الجديدة، انخفاض المداخيل وزيادة عدد السكان وحاجاتهم، ستصبح السعودية دولة فقيرة عاجزة في غضون سنوات قليلة.
في بريطانيا يكلف ملء خزان بنزين سيارتك نحو مائة دولار، وفي السعودية عشرة دولارات فقط. وسواء كان رخيصًا بالدعم أو تم تسعيره بثمن السوق، فإن سعر اللتر أو الكيلوواط ليس هو القضية، القضية هي دخل المواطن الذي يحتاج إلى أن يرتفع، والذي يحتاج تصحيحه إلى تصويب الاقتصاد كله.
تنمية الاقتصاد التحدي الذي ننتظر من الحكومة تحقيقه، حتى تصبح البلاد غنية لا الحكومة فقط، وحتى تصبح قدرات العائلة المادية كفيلة بدفع ثمن السلعة كاملاً دون مساعدة حكومية.
بالنسبة للسياسيين، الأهون عليهم إعطاء المسكنات، بدفع فروق الأسعار، وتوظيف من لا عمل لهم، لكن سيأتي يوم ستعجز الدولة عن الاستمرار، وسيدفع الثمن حينها المواطن والحكومة معًا، وقد يكون الألم أقسى والتنفيذ أصعب.
تصويب الأسعار ضرورة، من أجل تخفيض حمل الإعانات الثقيل من على ظهر الدولة، والأهم أن يكون هذا كله ضمن تغيير فلسفة الاقتصاد وديناميكيته.
سيصبر الكثيرون على ما لم يعتادوه، أي ارتفاع الأسعار بسبب خفض الحكومة المعونات، شرط أن يكون هناك إصلاح اقتصادي وتنموي حقيقي، وهذا ما تعد به الحكومة. هو تحدٍ كبير جدًا تقول الحكومة إنها مستعدة له. ومهمة الإصلاح والتنمية عملية معقدة، بتصويب التعليم من بداياته إلى مخرجاته، ودعم التدريب، وتغيير اهتمامات الاستثمارات المصرفية الخاملة حاليًا، وإدخال مفاهيم الإدارة الحديثة، وتعديل خريطة الصناعات، وتشجيع المرأة على العمل لتعزيز دخل عائلتها، ومحاربة العادات الاجتماعية الاتكالية، ومحاسبة مؤسسات الحكومة الفاشلة، واعتماد برنامج يحارب الفساد على كل المستويات. قائمة التمنيات طويلة لكنها ليست مستحيلة التنفيذ، فعندما تكبر كعكة الإنتاج للبلد، تكبر معها مداخيل المواطنين، الذين سيدفعون ثمن لتر البنزين بسعر السوق العالمية كاملاً دون تبرم.
وإلى قبل أيام كان كثيرون من المحللين مع تسرب إشاعات تخفيض المعونات الحكومية، يشككون في عزم الحكومة السعودية على اتخاذ خطوة التصحيح للأسعار، لأنها علاج سياسي مريح بغض النظر عن الكارثة المقبلة. انتهت خطوة واحدة صعبة في طريق شاق يتطلب إصلاح حكومة عمر أسلوبها أكثر من أربعين عامًا. منذ السبعينات، صار مفهوم الرعاية الحكومية هو المفضل نتيجة الوفرة المالية. البلد كبر من ثمانية ملايين نسمة إلى نحو خمسة وعشرين مليونًا اليوم، مع أربعة ملايين من السائقين وخدم المنازل من الأجانب.
مصلحة المواطن أن يتم تعديل الوضع الاقتصادي القديم والانتقال إلى مستقبل آمن له ولأسرته، وتصحيح الأسعار خطوة أولى أساسية. فمداخيل النفط تتناقص، وعدد السكان سيتضاعف، ومستوى المعيشة في العالم سيظل يرتفع، وبالتالي المصلحة العامة ليست بسد العجوزات المالية بالدعم الحكومي، أو من خلال الاستدانة، ولا حتى بالتقشف، بل الحل في تطوير قدرات المواطن وإمكانات البلد الاقتصادية المنتجة، حتى يصبح مثله مثل مواطني الدول المتقدمة.
صحيفة "الشرق الأوسط"