قبل ثلاث سنوات تقريبا نشرت مجلة المصالح الأمريكيةamerican interest مقالأ فى عدد مارس 2012 كان بقلم ولتر رسل ميد، المقال بعنوان (الليبرالية الغربية فى غرفة الإنعاش) كان المقال رؤية مبكرة فى كيف تدمر المصالح الجديدة الأفكار القديمة فى الفضاء الغربى، خاصة أفكار استقرت فى القرن العشرين الذى سمى قرن الليبرالية، والتى بنيت عليها الدول الجديدة و منها الولايات المتحدة الأمريكية كل مواقفها السياسية. استشهد الكاتب فى المقال بعبارة كتبت فى ايام الأزمة العظيمة التى سميت الكساد العظيم، فى نهاية العشرينيات من القرن الماضي، قال فيها كاتبها: النهاية أقبلت ولكنها لم تظهر للأعين بعد! عبارة عميقة لها معنى مجازى، إن الأزمات لها تباشير، ولكن أغلب الناس لا تراها، أو لا ترغب فى أن تراها .تُعبر العبارة عن الوضع الحالى أيضا بدقة متناهية، فالليبرالية الغربية تلفظ أنفاسها الأخيرة ولكن كثيرين لا يشعورن بها، وبالتالى فإن هناك سياسات غربية سوف تتخذ تجاه الآخر ،و معظم الآخر هم المسلمون العرب ، جنوب البحر المتوسط!.
فى الأسابيع الأخيرة احتدم النقاش فى سياق السباق الأمريكى للوصول الى البيت الأبيض ،وكان النقاش يتجه الى المواقف الأكثر تشددا وعنصرية بداه دونلد ترمب بقوله/ يجب ان نقفل المساجد العاملة فى الولايات المتحدة ،وانهاه بالقول أخيرا يجب منع المسلمين (كل المسلمين) من دخول الولايات المتحدة. على صعيد آخر حقق الحزب اليمينى فى فرنسا فى الأنتخابات البلدية الأخيرة اكبر انتصار له بقيادة مارى لوببن اليمينية المتشددة ، وزعيمة حزب الجبهة الوطنية ، ولولا التكتيك الأنتخابى الذى تبناه الحزب الأشتراكى الفرنسى فى اللحظة الأخيرة ، بسحب مرشحيه من بعض المناطق و توجيه أنصاره للتصويت لليمين الجمهورى (ساركوزي) لفاز حزب لوبين بأغلبية المناطق البلدية الفرنسية، تمهيدا للوصول الى الحكم فى عام 2017! كثير من الدول الأوروبية تتجه الى اليمين من خلال صناديق الأنتخاب، المانيا، النمسا، المجر ، بولندا إسبانيا، بل وحتى السويد والدنمارك، والملاحظ نمو فى الأحزاب اليمينية هناك، حتى وإن حصلت على عدد من المقاعد قليلة فى البرلمان الوطنى، الأ ان المقاعد اليمينية فى البرلمان الأوروبى تتكاثر، وهذا قد يفسر من جانب آخر أن الكثير من المواقف المتشددة ضد الآخر، تبدأ فى البرلمان الأوروبي، ثم ينتقل الى البرلمانات الوطنية.
ماذا يعنى كل ذلك بالضرورة، يعنى أن المرشحين فى السباقات السياسية، لا يجهرون بافكار عنصرية ضد ديانة و بشر باختلاف ألوانهم واجتهاداتهم، الأ وأن هناك قبولاً من الشارع العام و القاعدة الأنتخابية لهذه البضاعة و لمثل هذه الأفكار، التى تدغدغ مشاعر ذلك الشارع، و تحشد الأصوات. التحليل المنطقى أن ذلك يتم بسبب الوضع الأقتصادى الذى لم تبرأ منه اوروبا و أيضا الى حد ما الولايات المتحدة منذ اكثر من عقد من الزمان، فإن هذا الخطاب العنصرى يجد له من يسمع ويرحب ويقبل به، على أساس أن هناك (شيطاناً) خرب الأقتصاد من جهة، وعاث فى البلاد تخريبا من جهة أخرى من خلال الأرهاب الأعمى، والمتهم هو الإسلام والمسلمون كافة وعلى رأسهم العرب! اذن هناك تغيير فى سياسات ومزاج الشعوب (الحرة) وهى تتحول الى سياسات مُقبلة تنفذ على الأرض، ولكنها لم تظهر الى العيان بعد!! على حد تعبير الكاتب ابان الكساد الكبير! الملاحظ ان شعوب العالم الثالث و خاصة الشرق الأوسط والعرب ،حتى اليوم تلهث من أجل أن تساير (الليبرالية الغربية) أى سوق حرة، وصناديق انتخاب، و حرية مرور! (دعه يعمل دعه يمر) كل تلك الأفكار تتجه الى ان توضع اليوم فى منابعها فى ثلاجة بالغة البرودة فى الغرب. فلم تظهر تلك السياسات المتسامحة فى استقبال اللاجئين السوريين، بل وضعت أمامهم سدودا ضخمة ومطاردات بوليسية ، الى درجة ان تسابق حكام الولايات المتحدة بالإعلان الواضح والصريح، بأنهم سوف يقفلون ابواب ولاياتهم أمام اللاجئين، حتى لو كانوا ايتماما صغارا لا ولى لهم! وتعانى السيدة انجيلا ميركل المستشارة الألمانية صعوبات سياسية فى داخل حزبها و فى خارجه جراء ما أعلنته من سياسات ليبرالية تجاه اللاجئين فى وقت ما، و العارف بمواطن الأمور ان ذلك الترحيب المتحفظ، لم يكن كاملا من أجل عيون اللاجئين، ولكن كان بعضه بسبب الأحتياج لليد العاملة الماهرة وشبه الماهرة لدعم الأقتصاد الألمانى الذى يحتاج الى أيد شابة يمكن تدربيها بعد ما أصاب السكان الألمان من الهرم! لانها فى وقت سابق قريب كانت تصرح بأن التعددية الحضارية قد فشلت!!
النظام الليبرالى الغربى يعانى من عوائق حقيقية، وهو فى مرحلة تغيير جذرى، اول ضحاياه الأفكار، ومن ثم الممارسات تجاه الطبقات المحلية الأفقر وتجاه الأغراب، بل إن بعض مجتمعاتها مهددة بحروب أهلية حقيقية، نتيجة الأختلاف الكبير فى المواقف و الآراء السياسية، الى درجة ان البعض ينتقد ميكانيكية النظام السياسى الذى تركب منذ سنوات طويلة بأنه لم يعد قادرا على حل المشكلات القائمة. فى مرحلة طويلة من الأقتصاد الليبرالى المستقر، كان العمال من ذوى الياقات الزرقاء او البيضاء يحتفظون بأعمالهم لمدى الحياة العملية، و يتقاعدون على مرتبات ومزايا مريحة، لم يعد الأمر كذلك فى الأقتصاد الرقمى الحديث، فلم تعد هناك صناعة مستقرة الى فترة معقولة من الزمن، بسبب التقدم الهائل فى العلوم التطبيقية التى تكتسح العالم، والتى أصبح باستطاعة راس المال ان يتحول بسهولة الى أماكن بعيدة يجد فيها رخص اليد العاملة لان المهارة أصبحت ميكانيكية، ولم تعد الثلاثية الحديدية التى حكمت الاقتصاد الغربى فى السابق وهى الوطن و السوق ورأس المال ،محصورة فى مكان واحد او جغرافية بعينها. يعانى الأقتصاد الغربى من ضائقة شح اليد العاملة، و ارتفاع الضرائب وتحول الصناعات الى صناعات رقمية يمكن أن تصنع فى أى مكان! فزادت البطالة و الضائقة المعيشية حتى لم نعد نسمع كثيرا حتى فى الإعلام الأمريكى عن (الحلم الأمريكي)! كبر السن للعامل الغربي، و تكاليف التقاعد والتنافس الذى تفرضه الأقتصادات الناشئة، يؤثر سلبيا على طريقة الحياة الغربية التى تحققت فى النصف الثانى من القرن العشرين، فلجأ السياسيون لتنفيس ذلك الأحتقان، بوضع اللوم على الآخر الغريب ،مما يسبب أزمة سياسية وأخلاقية فى آن واحد، كما يشيع جوا من العداء والكراهية وصفه أحد كبار المحللين انه قد يقود الى حرب بين (الشمال) و( الجنوب). المأساة أن البعض هنا يناقش الموضوع من منطلق أخلاقى، ويرى فى هذه الأنعطافة الى اليمين انها مؤقتة او شخصية او حتى قليلة بين الناس فى الغرب، وهو تحليل قاصر عن فهم جذور المشكلة، وبالتالى قصور فى وضع العلاج لها أو مواجهتها. ترفع الدول الغربية اسوارها اليوم أمام الهجرة ،وتخفضها لتبيع لنا سلعاً وخدمات فى نفس الوقت، وما دمنا قاصرين عن توحيد صفوفنا العربية، سوف تزداد تلك السياسات حدة، حيث يواجهنا الغرب متحدا ونواجهه مختلفين ومتفرقين!!
الاهرام