ليست ككل القرى البائسة التي يهرب حتى البؤس من بؤسها ، فهي ضاحية راقية برقي أهلها ، رغم الإهمال الحكومي لها ، وأهلها ليسوا ككل القرويين ، فهم متعلمون مثقفون متنورون منفتحون ، تتلمذوا على يد أبيهم الروحي الحاج المرحوم علي الفرحان الذي هرب إلى القدس عام 1917 ليلة دخلته لرفضه الزواج التقليدي ، وعاد بعد عام وبنى أول بيت في القرية عام 1918 وكان إسمه بيت الخبز ، لتقديمه الخبز الطازج للحراثين والحصادين والرعاة، وتحول بعد ذلك لمركز لرياض الأطفال ، ومن ثم أصبح مؤخرا مركزا للشباب ، يغرس فيهم قيم التنور والإنفتاح والإنتماء والولاء للأرض .
أتحدث عن قرية بيوضة التي أسسها أهلها بأنفسهم ، وأصروا على الخروج بها من نمطية القرية البائسة ، والدخول في عالم التنمية الذاتية للوصول إلى الإكتفاء الذاتي ، وعدم إنتظار الإهتمام الرسمي غير الموجود أصلا ، ولهذا ترى هذه القرية وكأنها ضاحية من ضواحي باريس الراقية النظيفة المرتبة وذات النسق العالي من حيث طبيعة البناء ، ونظافة الشوارع والإعتناء بالأرض ، وصنع الطعام البيئي الخالي من الإضافات الكيميائية ، وكذلك التركيز على الزراعة البيئية لتعميق الإنتماء للأرض أمنا جميعا ، والتي سيكون مآلنا إليها جميعا قبل أن يرث الله الأرض ومن عليها .
صباح الأربعاء قادتني الأقدار للقاء شابة عربية أصيلة ، تتسم يقوة شخصية لا حدود لها يغلفا إنفتاح وتنور محمودان ، هي الناشطة البيئية وصاحبة مبادرة إزرع أكثر إلهام العبادي ، التي كرمتها المنظمة العربية لحماية الطبيعة التي تقودها الفارسة النبيلة م .رزان زعيتر ، قبل أيام ممثلة لقرية بيوضة النموذجية المثالية التي تركز على البيئة والزراعة العضوية .
عندما دخلت القرية إنتابني إحساس مفرح بأنني في حضرة النور والبهاء والتنور والإنتماء ، وما أن إستقبلتنا النشمية إلهام حتى أدركت السر ، وكنا قبلها قد سألنا إحدى السيدات عن عنوان البيت ، فأصرت على دعوتنا لبيتهم لتناول طعام الإفطار لكننا إعتذرنا بأدب لإرتباطي بموعد مع النشمية إلهام العبادي.
إسقبلتنا النشمية إلهام بالشاي الأخضر والفطور البلدي ، وكم كان رائعا أن نعود إلى أيام زمان ونبدأ على الأقل بالحفاظ على بيئتنا وغذائنا بعد ان فشلنا في الحفاظ على أرضنا ومقدساتنا ، وحتى كرامتنا المدنسة لحظيا من قبل يهود بحر الخزر المتصهينين.
ذهلت كثيرا لأنني وجدت نفسي ليس في حضرة ناشطة بيئية قروية "فلاحة"، بل أمام بروفيسور تتلمذ على حكيم قبل أن يدخل المدرسة وينتقل إلى الجامعة ، ولكن ذهولي بدأ يخفت عندما تعرفت على والدها ، وعرفت انها حفيدة الحاج علي الفرحان الذي تتلمذ على أيدي مشايخ الأقصى عام 1917 ، وإكتسب منهم الفكر التنويري القائم على الإنفتاح الملتزم .
بعد الإنتهاء من الحوار ، رافقتنا النشمية إلهام إلى أرجاء المنطقة ، وإطلعنا على واقع الحال في تلك المنطقة المحرومة من التنمية والإهتمام الحكومي ، ورأينا حالة سيل الزرقاء الذي تحول لمجرى للمياه العادمة ، رغم أنها جنة الله في أرضه ، شأنها شأن العديد من المناطق الريفية في الأردن، والتي لو نالت إهتماما حكوميا ، وعرف طريقها المستثمرون الجادون لتحولت إلى مناطق إنتاج تغنينا عن ذل السؤال وإستيراد غذائنا مسموما من مستدمرة إسرائيل . .
تمتاز قرية بيوضة بتربتها الخصبة الحمراء ، وما زادها بركة على بركتها هو إهتمام اهلها بأراضيهم حيث الحراثة وبناء السناسل الحجرية المكحلة بالإسمنت ، ما زادها جمالا فوق جمالها ، وكذلك نظافة شوارعها ، وخلوها من القمامة ومن علب المشروبات الغازية الفارغة ، وأكياس البلاستيك ، لتحولهم إلى الأكياس الورقية وتركيزهم على البيئة ، الأمر الذي يعكس نقاءهم الروحي .
أهل قرية بيوضة لديهم طموحات إستراتيجية ، ينفذونها بدون دعم حكومي ، ليس تعففا بطبيعة الحال ، بل لأن هذا الدعم لم يعرف طريقه إليهم ، فهم أصحاب مبادرة إزرع اكثر ، ويطبقون مقولة شيخ العروبة المهاجر جبران خليل جبران ، الذي حذر الأمة التي تأكل مما لا تزرع وتلبس مما لا تصنع ، فهم يتناولون الطعام البيئي المنتج من أرضهم ، ويحاربون المشروبات الغازية ، ويشربون من مياه الحصاد البيئي ، ويخططون لإحياء الينابيع الجافة من خلال السدود الصغيرة ، التي ستقوم على الحصاد الملائي في الأودية والممرات المائية.
نشامى ونشميات بيوضة عاقدون العزم على النهوض بقريتهم ، وتنميتها وتطويرها بعلمهم وتنورهم وإنفتاحهم ، رغم إنقطاع الدعم الحكومي عنهم ، وهم في طريقهم للإعلان عن قريتهم منطقة هامة بيئيا ، لتتمكن من إتباع إستراتيجية نهوض زراعي ، والمطلوب وعلى وجه السرعة ، إلتفاتة حكومية متواضعة لقرية بيوضة وبقية القرى الأردنية البائسة ، فالشعب الأردني يستحق أكثر من ذلك ، والصرف الحكومي يذهب في معظمه لغير أهله المستحقين.