دونالد ترمب مرشح الرئاسة الأميركية مبدع عادة في إثارة الجدل، فقد تعهد بمنع المسلمين من أميركا، وإغلاق المساجد. وأطلق تصريحه الأخير بأنه كان خيرًا للشرق الأوسط لو بقي في الحكم الرئيسان العراقي صدام حسين والليبي معمر القذافي. وهدف ترمب إغراء وسائل الإعلام حتى تبقيه في صدارة الأخبار، مثيرا الجدل، ومدغدغا عواطف بعض الناخبين. وبفضل فرقعاته الآن هو في المقدمة، لكن المسافة طويلة حتى يوم الانتخابات.
ومقولته الأخيرة «لو بقي صدام والقذافي في الحكم لكان الشرق الأوسط أفضل» جدلية، تصلح دائما موضوعا للنقاش.
فرضية بقاء الاثنين في الحكم تنسي أنهما ليسا بنظام راسخ، وسواء أخرجا بالقوة الخارجية كما كان في حال صدام، أو على أيدي مواطنيه كما حدث للقذافي، أو قبض روحه ملك الموت في وفاة طبيعية، فإن احتمالات وقوع الفوضى واردة جدا. الأرجح أنه عندما يموت صدام أو القذافي بأي شكل تقع الفوضى. ففي العالم هناك أنظمة وهناك زعامات فردية. فالاتحاد السوفياتي عندما انهار استمر هيكل النظام تحت عنوان آخر، لكن عندما أخرج زياد بري رئيس الصومال خلال التسعينات من الحكم بتمرد داخلي انهار النظام كله، والصومال إلى اليوم في فوضى منذ خمسة وعشرين عاما.
كذلك انهارت ألبانيا على دفعتين، مرة بسبب الفراغ الذي خلفته وفاة أنور خوجه في منتصف الثمانينات، والثانية بعد عشر سنوات نتيجة فشل إدخال الانتخابات الحرة في البلاد، فعمتها الفوضى والشغب حتى سارع الأوروبيون باحتوائها لاحقا.
لقد انهارت أنظمة كثيرة في السنوات العشرين الماضية دون تدخل أجنبي، بعضها عاش الفوضى، ومعظمها نجا. في أوروبا الشرقية تفككت يوغسلافيا بمقتل تيتو، ونشبت حرب بشعة في البوسنة والهرسك، وتقزمت البلاد في الأخير إلى جمهوريات صغيرة. وهناك تشيكوسلوفاكيا، التي بعد ثلاث سنين من انهيار النظام انقسمت إلى جمهوريتين، وإن تم ذلك بسلام. لقد تهاوت أنظمة كثيرة دون غزو أو تدخلات خارجية، لأنها لم تكن مبنية على أسس تمكنها من الاستمرارية، فقد سقطت أنظمة لاتفيا، ومولديفيا، وكازاخستان، وجورجيا، وبيلاروسيا، أو روسيا البيضاء، وأوكرانيا، والقائمة طويلة.
السؤال: هل كانت ليبيا ستبقى مستقرة وموحدة لو مات القذافي إثر نوبة قلبية، وليس بسكاكين الثوار في مجرى تصريف مياه الذي كان مختبئا فيه؟ أستبعد ذلك. فالنظام كله بني على شخصه فقط.
والحال مماثلة مع صدام، خصوصا أن مقدرات العراق أضعفها الحصار الذي دام ثلاثة عشر عاما، من 1990، وكان يبيع النفط خلسة حتى يبقي حكومته إلى اليوم التالي.
ولهذا السبب عند وقوع الغزو الأميركي ذاب جيشه في أسبوع، مثل قلعة من الرمل على شاطئ البحر. ولو مات غيلة، أو بوفاة طبيعية، لانهار الحكم أيضا، خصوصا أنه قطع شجرة النظام عندما قام بتصفية معظم قياداته والمقربين منه، مثل حسين كامل زوج ابنته والعشرات من رجالات حزبه. لم يبقَ في العراق شيء يوحي بالحياة سوى التصريحات العنترية لوزير إعلامه الشهير الصحاف.
ويمكن أن نقول الشيء نفسه عن سوريا، التي قامت على نظام أمني عسكري، وكانت أكثر رسوخًا من العراق وليبيا. فإنه بعد وفاة الأب حافظ الأسد وتولي ابنه بشار، بدأ النظام يتأرجح سنين قبل الثورة. وكانت صرخة واحدة في مدينة درعا كفيلة بإشعال النار في العاصمة دمشق. ولو لم يثُر الناس في عام 2011 ربما ثاروا بعدها بخمس أو عشر سنين.
أما الذي أبقى على وحدة بلد مثل مصر، إبان ثورتها الأخيرة، فهو جيشها. فقد كان عمود الدولة، ولا يزال إلى اليوم، ولم يكن رئيسها حسني مبارك سوى رأس المؤسسة، لم يكن زعيما مطلقا.
تدوم الأنظمة، سواء ديمقراطية أو غير ذلك، تلك التي تبني لنفسها قواعد قابلة للحياة والاستمرارية، ولا يستطيع أحد أن يصف نظام القذافي أو صدام بشيء من ذلك. والخطأ وراء فشل الليبيين من اليوم الأول، وبعد حدوث الفراغ، عدم دعمهم لإقامة نظام معقول هدفه جمع الفرقاء تحت مظلة واحدة. والأمر نفسه في العراق حيث استهان الأميركيون بالتحديات الداخلية، بإلغائهم الجيش والأمن وبقية المؤسسات.
ماذا عن الفوضى في اليمن التي انهار حكمها تدريجيا بعد إزاحة رئيسها علي صالح؟ الوضع مأساوي للسبب نفسه، فاليمن كله كان قد بني لخدمة شخص واحد. وأتوقع أن القوى المتحالفة، التي أقصت المتمردين وتحاصرهم اليوم، ستسعى لإشراك كل الفئات في أي حل سياسي ومؤسساتي مقبل، وإلا فإن الفوضى ستدوم طويلا. العبرة هي أن أنظمة الحكم المؤسساتية قادرة على النجاة، أما الفردية فمعرضة للسقوط، بغض النظر عن الأصابع والتمنيات.
صحيفة "الشرق الأوسط"