الليبرالية المبتورة و أطفال الحاويات !

mainThumb

05-12-2007 12:00 AM

لم يمض وقت طويل على قصة مشابهة تماماً، حتى عثر عاملا نظافة أول من أمس على طفل حديث الولادة في حاوية قمامة أسفل جسر عبدون المعلّق، ملفوفاً بكيس قمامة أسود في حالة صحية سيئة. وقبلها بأيام كان طفل يموت في حاوية قمامة، بعد أن دعمت سيارة تلك الحاوية ليتفاجأ الجميع بهذا الطفل فيها، ربما مستدفئاً من الطقس البارد، أو باحثاً عن لقمة خبز من بقايا الناس فيها، حيث قضى فيما بعد في إحدى المستشفيات!

ولعلّ اغرب تعليق قرأته على الخبر أمس في "الغد" من د. أحمد العوايشة، مدير المركز الثقافي الإسلامي في الجامعة الأردنية، عندما عزا "إلقاء الاطفال حديثي الولادة في حاوية او في كيس قمامة الى التخلص من الوليد والخوف من العار، وليس بسبب الفقر، الى جانب اختلاف البيئة والتطورات الاجتماعية التي ساهمت في الفساد الاخلاقي". فعلى النقيض من كلام العوايشة؛ ثمة رابط شديد بين استشراء الفقر والظروف الاقتصادية السيئة وبين ظاهرة "الفساد الأخلاقي" التي يلحظها الناس في الآونة الأخيرة.

فالفقر هو أصل الداء والبلاء، الذي تنتج عنه هذه الظواهر البشعة والغريبة، سواء بصورة مباشرة عندما يؤدي ببعض الفتيات إلى الانحراف سعياً لتأمين متطلبات الحياة أو بسبب انهيار الطبقة الوسطى وقيمها التي تشكل صمام أمان للمجتمع بصورة عامة.

ولعلّ احدى أبرز قضايا النقاش والجدال حول برنامج "الإصلاح الاقتصادي" تكمن في التداعيات الاجتماعية والاقتصادية المرعبة المترتبة عليه، وأبرزها تهديد الطبقة الوسطى بالانهيار والتفكك، ما يؤدي إلى استشراء ظواهر اجتماعية وثقافية، وسياسية، ذات مدلولات وأبعاد خطرة، لم يشهدها المجتمع خلال العقود القليلة الماضية.

يحتج البعض على هذا التحليل بالقول: إنّ المجتمع الأردني في الأصل كان مجتمعاً رعوياً وزراعياً، وكانت أغلب فئات المجتمع تعاني من الفقر وتعتمد على نمط استهلاكي بسيط، ولم تكن هذه الظواهر بصورتها الفجة الحالية منتشرة. لكن هذا الاعتراض يتجاوز أنّ الشروط الاقتصادية الحالية نفسها تغيرت وأدت معها إلى موجة تحولات مجتمعية واسعة وعميقة، ترتبط بسيادة أنماط استهلاكية جديدة، لا يمكن القفز عنها، وثمة أجيال جديدة من الشباب الفقراء والعاطلين عن العمل، وثمة ظروف اجتماعية قاهرة تعاني منها شريحة واسعة غير قادرة على مواكبة التحولات الاقتصادية ولا الاستغناء عن الأنماط الجديدة.

إنّ الخطورة الحقيقية للأوضاع الاقتصادية تتمثل بـ"الفجوة الاقتصادية والاجتماعية" التي تتجذر بين التحولات الاجتماعية والاقتصادية الواسعة وعدم قدرة شريحة واسعة من المواطنين على مواكبة هذه التحولات والتكيف مع تداعياتها ونتائجها.

"أطفال الحاويات" ظاهرة أكثر من محزنة ومقلقة. إنها مؤشر خطر ورئيس على تدهور اجتماعي وثقافي عام. وفي هذا السياق تُقرأ هذه الظاهرة، والسكوت عليها أو تجاهلها أو حتى التعامل معها في سياق جزئي محدود بالتأفف والتحسر هو تعامل غير صحيح وسيؤدي إلى ما هو أخطر وأكبر منها.

هنالك مشاهد حقيقية لتداعيات مأساوية تعيش فيها مجتمعات عربية تعاني من انهيار الطبقة الوسطى. ويكفي الإشارة في هذا السياق إلى النموذج المصري لاستقراء "السيناريو الأسوأ"؛ ففي القاهرة وحدها هنالك مئات الآلاف من الأطفال المشردين، وفقاً للإحصائيات الرسمية، يلتحفون الفضاء وينامون في الشوارع والأزقة، ويتعرضون لانتهاكات جسيمة لإنسانيتهم وطفولتهم، كما ذكرت تقارير إعلامية عديدة. وهنالك تدهور شامل في مسار التعليم والبحث العلمي وانتشار للأمية حتى في أجيال الشباب وتسرب للرشوة في مختلف الدوائر الرسمية وغياب احترام القانون لدى فئات كبيرة، وترهل القطاع العام بصورة واضحة وملموسة وعجزه عن مواجهة التحديات والأزمات وتحوله إلى مستودع بشري يمثل عبئاً على الدولة لا أداتها الرئيسة في تقديم الخدمات للمواطنين. ما هو أسوأ من ذلك نمو "الدعارة المبطّنة"، بدافع الفقر والعوز الشديد. ومنها انتشار "الزواج العرفي" بخاصة في الجامعات، دون أية قيود قانونية وشرعية.

بالطبع؛ الوضع هنا أفضل بكثير، حتى في سياق المقارنة بين الأردن وغيره من الدول العربية، غير الثرية، فإنّ كفة الأردن ترجح بوضوح. لكن هذا لا ينفي أنّ الظواهر الأخيرة كأطفال الحاويات والتلوث والتسمم كلها مؤشرات على "السير إلى الوراء"، وهي مؤشرات على أنّ خللاً اقتصاديا- اجتماعياً بنيوياً بدأ بالبروز من خلال الثغرات في برنامج الإصلاح الاقتصادي.

المشكلة لا تكمن بالوصفة "الليبرالية" للاقتصاد، لكن بالخلل في تطبيق هذه الوصفة أولاً وعدم تناغمها، ثانياً، مع البيئة المحيطة سياسياً واجتماعياً وثقافياً. ففي أغلب الدول الغربية هنالك منظومة متكاملة تخلق بدورها حالة من التوازن المعقول، وتدفع باتجاه بناء أدوات كثيرة تحمي الطبقات الفقيرة من الوقوع في غائلة الحاجة والعوز والفقر. فهنالك دورة اقتصادية متكاملة تتوازى مع مؤسسات سياسية راسخة وقيم ديمقراطية تحكمها كالمساواة في الفرص وسيادة القانون، وقيم اجتماعية حداثية، وكذلك وهو الأهم مؤسسات مجتمع مدني قوية ومؤثرة تصون الأفراد المستضعفين في المجتمع وتحميهم من قسوة السوق.

لا نتوقع القفز إلى تلك المرحلة المتقدمة للدول الليبرالية الغربية بفترة قريبة. لكن ما نطمح إليه ألا تتحول "الوصفة الليبرالية" إلى أداة تفكيك للمجتمع وتحطيم القيم وتشويه النسق الاجتماعي- الثقافي واستئصال الروح السياسية الوطنية لدى الطبقة العامة من المواطنين!

* وهذا المقال في طريقه إلى النشر أشار خبر جديد إلى العثور على جثة طفل حديث الولادة في شبكة صرف صحي في منطقة الشونة الجنوبية.. ألا تستحق هذه الظاهرة مراجعة حقيقية تعبر إلى التحولات الجديدة وتقرأها بصورة أفضل!

m.aburumman@alghad.jo



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد