رؤيا بوش الإلهية: هدية لمحور التشدّد وصفعة موجعة للحليف العربي

mainThumb

12-01-2008 12:00 AM

جولة الرئيس جورج بوش في الأراضي الفلسطينية وإسرائيل قطعت الشك باليقين حيال رغبته الواضحة بفرض سلام الأمر الواقع وإرساء معالم "دولة فلسطينية ما" برعاية أمريكية لمصلحة إسرائيل على حساب الحلفاء العرب الملتزمين بخيار السلام كإستراتيجية وحيدة.

الحمد لله أن الزيارة الرئاسية حصلت إذ أنهت مسرحية "وهم السلام بأي ثمن" استكمالا لمؤتمر أنابوليس الذي عقد نهاية كانون أول بإدارة رجل يريد أن يطرح نفسه زعيم "السلام المنتظر" قبل أفول ولايته بعد 12 شهرا.

لتحقيق وعد بوش ستتحرك الإدارة الامريكية ضمن ورقة الضمانات الأمريكية عام 2004 - التي انتقدها الأردن وقتئذ بشدة -- وليس إلى القانون الدولي والشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية التي لطالما طالب بها الجميع باستثناء تل أبيب.

خلال الزيارة لم يتحدث بوش عن معاناة الشعب الفلسطيني في مواجهة احتلال بغيض وعدوان عسكري بكل أشكاله ومجازر يومية وحصار خانق لغزة وجدار فصل عنصري وأفق سياسي مسدود.

ولم يعط الفلسطينيين وحلفاءهم العرب أي "جزرة" جديدة ليجمّلوا فيها الصورة السوداوية التي تصب لصالح تقوية موقف محور الممانعة -- إيران وكل من يقف وراءها من دول ومن يفكر بالاقتراب منها لحماية مصالحه إضافة إلى حركة "حماس" الفلسطينية و"حزب الله" اللبناني .

اكتفى بوش بتشجيع الطرفين على المضي قدما في المفاوضات صوب اتفاق سلام قبل نهاية العام -- علما أن هذا الوعد كان يفترض أن يصبح حقيقة قبل ثلاث سنوات.

الأسوأ أن الرئيس الأمريكي وضع شروطا "كارثية" تمس قضايا الوضع النهائي عندما انتزع فكرة إسقاط "حق العودة بشكل نهائي وقاطع من خلال التعويضات حسب آلية دولية مقابل تكريس إسرائيل "دولة اليهود" الأمر الذي يعني تلقائياً بقاء الفلسطينيين في الشتات في أماكنهم أو العودة إلى دولة فلسطين القزم داخل حدود .1967

بهذا الموقف العلني, تجاهل بوش أسس الشرعية الدولية التي تضمن حق العودة أو التعويض أو كليهما. كذلك يتجاوز حتى مبادرة حل الدولتين التي طرحها في بداية عهده إضافة إلى ما يشكله ذلك من تهديد مباشر لمصالح الأردن الوطنية الآن ومستقبلا في بلد له خصوصية, إذ ان ثلث عدد سكانه لاجئون لم يحسموا بعد أمر هويتهم وولائهم السياسي بانتظار خيارات الحل النهائي.

إذا, سقف صفقة السلام الأمريكية المعروضة اليوم تتماشى مع ورقة ضمانات 2004 لا أكثر ولا أقل, بحسب دبلوماسيين وساسة عرب ومسؤولين. وعلى الفلسطينيين ودول الاعتدال العربي إما القبول بها أو الانتظار لحين قدوم إدارة أمريكية جديدة.

بموجب الإملاءات غير المعلنة يجب على العرب القبول بما يلي:

- لا عودة إلى حدود 1967: أي أن حدود الدولة الفلسطينية التي ينادى بها ستقوم بتعديلات على خطوط الهدنة عام 1949 "لتعكس الوضع الحالي" - أي التسليم بالجدار العازل والأراضي التي ابتلعها والمستوطنات المتكاثرة فيما يصبح غور الأردن الحد الفاصل بين المملكة وإسرائيل.

- لا عودة للاجئين إلى داخل إسرائيل من الأراضي التي طردوا منها وإنما لحدود دولة ما مع تعويض - اي إنهاء قضية اللاجئين عبر توطينهم.

- تطبيع العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل قبيل قيام الدولة الفلسطينية المستقلة.

- لا تفكيك للمستوطنات غير القانونية في الضفة الغربية.

- القدس الشرقية لن تكون عاصمة للدولة الفلسطينية الموعودة.

في ورقة الضمانات التي انتقدها الأردن مرار, غيّرت واشنطن موقفها التقليدي منذ احتلال عام 1967 حين اعتبرت أن ترسيم الحدود بعد معاهدة السلام يجب أن يأخذ في عين الاعتبار "الحقائق الجديدة" التي أقامتها إسرائيل على الأرض منذ حرب حزيران. هذا يعني ان المستوطنات وخصوصا ما تسمى الكتل الاستيطانية الكبيرة ستنضم إلى إسرائيل في أي حل نهائي- مهما حاولت تل أبيب استعمال مساحيق تجميل أو أرسلت واشنطن رسائل تطمينات للحلفاء العرب.

في زيارته الأخيرة كان بوش أكثر كرما من رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت حيال حقوق الفلسطينيين حين قال في مقابلات صحافية عشية زيارة الضيف الأمريكي إن العالم - حتى المتعاطف مع إسرائيل - يرى مستقبلها ضمن حدود 1967 ويتكلّم عن تقسيم القدس, وان إسرائيل لا توافق على ذلك لكن يجب أن تأخذه في الحسبان خلال عملية التفاوض مع الفلسطينيين.

أما الرئيس بوش فطالب بالتفريق بين المستوطنات الإسرائيلية المرخصة, وغير المرخصة عند ترسيم الحدود متجاوزا حقيقة أن الاستيطان كله غير شرعي وغير قانوني وفق القانون الدولي.

اليوم أدخل الرئيس بوش الرئيس عباس وحلفاءه العرب, خاصة الأردن ومصر, في مأزق ومتاهة جديدين يعرفون متى دخلوا فيها ولا يعرفون كيف وأين ومتى سيخرجون منها?

حتى توقيت الزيارة اختير بعناية ليعزز فرص بقاء حليفه اولمرت في الحكم خصوصا بعد قرب صدور تقرير لجنة فينوغراد أواخر الشهر الحالي والذي يهدد الحكومة الإسرائيلية بالسقوط.

في خلفية المشهد خوف أمريكي من تفكك حكومة أولمرت الهشّة لا سيما بعد تهديد وزراء الأحزاب الدينية واليمين المتطرف بالاستقالة في حال تطرقت مفاوضات السلام إلى وضع القدس أو اتخذ قرار بتجميد الاستيطان بشكل فعلي.

تلكم أفكار حدود "رؤيا بوش" المعروضة اليوم في بازار المفاوضات لحين مغادرة سيد البيت الأبيض كرسيه بداية العام المقبل. وكأنه بذلك يقول للفلسطينيين وللعرب "هذا ما لدي: إما أن تقبلوا دولة مستقلة بهذا الشكل الذي اطرحه أو تنتظروا حتى يأتي سلفي."

وفي خلفية المشهد إدراك متنام لدى المسؤولين بأن تعهدات بوش هذه تعني الضغط صوب تبني خيار الكونفدرالية أو الفيدرالية مع الأردن للالتفاف على شرط إقامة دولة فلسطينية مستقلة.

هذا السيناريو المشؤوم هو ما كان وما سيظل الأردن يخشاه ويسعى لدفنه بكل الوسائل السياسية والدبلوماسية المتاحة لدى صانع القرار.

صحيح أنه لم تكن لدى الأردن أوهام حول نتائج زيارة بوش بالرغم من الجهود الجبارة التي بذلها الملك عبد الله الثاني مع الإدارة الأمريكية لصالح تحريك عملية سلام تفضي إلى أقامة دولة فلسطينية على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة.

علنيا, وبالرغم من المرارة التي تركتها زيارة بوش في حلق المسؤولين سيستمر الأردن في استعمال مفردات خطاب سياسي ايجابي يدعم خيار السلام الشامل وانطلاقة انابوليس. وسيعمل على توظيف كل إمكانياته الدبلوماسية المتاحة لمنع استئناف المفاوضات من دون مرجعية ملزمة تستند إلى الشرعية الدولية وبآلية ملزمة وجداول زمنية واضحة.

وسيكثر الحراك باتجاه تقوية العمق الاستراتيجي العربي وربما يفتح ملف تحسين العلاقات مع إيران التي أصبحت بلا منازع عنوانا ومدخلا هاما لتناول ملفات المنطقة الملتهبة في فلسطين ولبنان والعراق.

ربما وفر انسداد الأفق السياسي في الإقليم المتهاوي الفرصة الأخيرة كي تعزّز الحكومة الجبهة الداخلية لضمان الخروج الآمن من عنق الزجاجة الاقتصادي والسياسي الذي وصلت إليه البلاد وبدء العمل بجدية هذه المرة في بناء أسس دولة حديثة قائمة على المواطنة والحاكمية الرشيدة والمساواة في الحقوق والواجبات في إطار القانون, المؤسسية, تعددية سياسية وإعلام حر.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد