حوادث السير وفنجان القهوة

mainThumb

29-01-2008 12:00 AM

إذا تورط سائق في دهس مواطن ما وقتله على الفور ، فإن المسألة ستكون سهلة إلى حد كبير ، إذ ستتوجه جاهة إلى بيت القتيل تتشكل في العادة من وجهاء معروفين بالسير في مثل هذه المناسبات ، ويتم تبادل الكلمات في مديح أهل القتيل وبلدهم وعشيرتهم ، وتنتهي الحكاية بوثيقة صلح يخرج بموجبها السائق من السجن ، إذا كان قد مكث فيه من الأصل ولم يخرج بكفالة ، وتقوم شركة التأمين بدفع الدية المحدودة. أما إذا كانت نتيجة الدهس مجرد كسور أو إصابات بليغة فستغدو المهمة أكثر صعوبة ، رغم خروج السائق من السجن ، إذا لم يكن قد خرج بكفالة قبل ذلك ، كما هو شأن الأول.

لهذه القضية بعدان ، الأول يتعلق بنتيجة هذا التساهل على أمن الإنسان وحياته ، أما الثاني فتتعلق بالتعويض الذي يتقاضاه أهل القتيل أو المصاب ، وما ينطوي عليه من تقليل لقيمة وجوده في الحياة ، أو قيمة الإصابات التي يتعرض لها. ليست هذه دعوة لوقف الجاهات والعطوات ، بقدر ما هي دعوة لتغليظ العقوبة في حوادث السير التي تنطوي على استهتار من جهة ، كما هي دعوة لجعل دية القتيل مناسبة لقيمة الإنسان وحياته كما نص الشرع ، لا سيما حين يكون معيلاً لأسرة وأطفال. ولكي لا يقوم بعض الوجهاء بالتبرع بحقوق الأيتام أو ورثة القتيل عبر التنازل عنها دون مبرر.

عندما شرّع الخالق عز وجل عقوبة كبيرة على القتل غير العمد (صيام شهرين متتابعين ودية مسلمة إلى أهل القتيل) ، فقد فعل ذلك لأن الأمر ينطوي على بعض المسؤولية ، أكان الأمر متعلقاً بحوادث السير أم بسواها ، ويأتي عفو أهل القتيل بعد ذلك ، والذي يقدر غالباً تبعاً لما يتحمله الجاني من مسؤولية. من هنا ينبغي التفريق بين الجريمة التي تنطوي على قدر ما من المسؤولية ، حتى لو لم تكن متعمدة ، والأخرى التي لا تنطوي على شيء من ذلك ، فعندما يقود سائق ما سيارته بسرعة كبيرة في حي مزدحم بالبشر ويتسبب في دهس طفل ، فإن مسؤوليته هنا كبيرة ، إذ مارس الاستهتار بحياة الناس ، خلافاً لشخص آخر كان يسير ضمن السرعة العادية ثم قفز أمامه طفل لم يكن بوسعه أن يتحاشاه فجرح أو مات ، مع العلم أن الأمر لن يتعدى الجروح في الغالب لو كان منتبهاً وسرعته عادية.

في الحالة الأولى ثمة قدر من الإجرام يتمثل في الاستخفاف بحياة الناس ، الأمر الذي يمكن أن يتكرر مع آخرين ، لكن المصيبة أن القانون ونظام العطوات ما زال يعامل الجميع على قدم المساواة ، وإذا وقع بعض التشدد فلا يتعدى أن يسجن الجاني بضعة أيام يستقبل خلالها أهل القتيل حشداً من الجاهات تصيبهم بالصداع فيلجئون إلى الموافقة على ما لا يحبون.

في موضوع الدية الذي أشرنا إليه ، ثمة قدر من الاستخفاف بالإنسان وورثته ، إذ هل يعقل أن تكون دية الإنسان هي 12 ألف دينار في الحد الأعلى ، بينما هي في الشريعة الإسلامية 100 ناقة لا تقل قيمتها عن 200 ألف دينار (مؤسف أن تأخذ محاكمنا الشرعية بقيمة الفضة التي لا تزيد عن 10 آلاف دينار) ، وحين نتذكر أن الدية في حوادث السير تدفعها شركات التأمين فسندرك أن لا شيء يردع الناس. وإذا قيل أن الدية الشرعية كبيرة ، فإن الأصل أن تشترك معه (عاقلته) وهي العشيرة ، أو المجموعة البشرية التي ينتمي إليها ويتكافل معها (المصيبة أن جماعة الجاهات يتنازلون عن الدية حتى في القتل العمد ، فضلاً عن غير العمد في غير حوادث السير ، وهو عدوان صريح على الورثة ، لا سيما حين يكونون صغارا).

خلاصة القول هي أن من العبث المضي في لعبة فنجان القهوة على النحو الذي نتابعه ، والأصل هو قانون لا يساوي بين حادث سير نتج عن الاستخفاف ومخالفة القوانين ، وبين آخر نتج عن تدافع الأقدار. وإذا قيل إن ذلك لن يحل معضلة الحوادث ، فسنقول نعم ، لكنه يخفف منها بكل التأكيد.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد