أحلام الحكيم ورهاناته

mainThumb

27-01-2008 12:00 AM

مضى زمن طويل على آخر مرة التقيت بها "الحكيم" وحادثته ، تدهورت خلاله حالته الصحية ، وغادر الراحل الكبير موقعه الرسمي كأمين عام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، منصرفا لتحقيق حلم راوده مطولا لتأسيس مركز للأبحاث والدراسات ، يؤرّخ لتجربة الجبهة والحركة (حركة القوميين العرب) ، ومن ضمنها تجربته الشخصية كمؤسس وقائد للجماعتين.

على أن المتحقق من حلم جورج حبش في الحقل البحثي والمعرفي ، الفكري والتأريخي ، لا يبدو أفضل كثيرا من المتحقق من أحلامه السياسية ، وهي على أية حال ، ليست أحلام جورج حبش وحده ، وإنما أحلام جيل أو جيلين أو حتى ثلاثة أجيال من الفلسطينيين والعرب ، فقد رحل الحكيم بصمت بعد أن عاش سنوات وعقود من الضجيج والصخب في قلب دائرة الضوء ، وفي خضم "المعمعة" الفلسطينية والعربية على حد سواء. طوال سنوات تأسيس حركة القوميين العرب ونشاطها القومي بامتياز ، كانت أحلام الحكيم في "الوحدة والتحرير والاستقلال والحرية" هي المحرك الرئيس لنشاطه في بيروت وعمان ودمشق وبغداد ، وصولا إلى جبال عدن وحضرموت وظفار ، ولسنا بحاجة للقول بأن أي من هذه الأحلام لم يتحقق ، بل أن ما شهدناه بعد عقود ستة من إطلاق تلك الشعارات في الجامعة الأمريكية في بيروت ، ومن قلب جرح النكبة الغائر عميقا في جسد الحكيم وروحه ، هو نقيضها تماما ، فالاحتلال "فرّخ" احتلالات ، والتحرير الذي كان ينبغي له أن ينطلق من الضفة الغربية إلى "كامل التراب" بات يستهدف تحرير الضفة ذاتها ، أو ما تبقى منها ، والاستقلال المنشود تحول إلى هيمنة تامة وقواعد عسكرية منتشرة في فضاء المنطقة ومياهها وترابها ، أما الحرية فغائبة بالنسبة للأفراد والجماعات. واكب هبوط الحكيم من فضاء العمل القومي إلى تفاصيل العمل الوطني ، انتقاله من محدودية الشعار القومي إلى فضاءات "الأممية البروليتارية" ، رافعا لواء التحول إلى حزب ماركسي لينيني ، وخلال هذه الفترة لم يتأثر جورج حبش بأي شخص مثلما تأثر بكل من ياسر عرفات ونايف حواتمة...إذ على المستوى الوطني ، كان التميز عن عرفات ، والصراع معه على قاعدة الوحدة ، هو هاجس الحكيم وخطه الثابت ، وعلى المستوى الحزبي ـ اليساري ـ الفكري ، انحصرت هواجس حبش في البرهنة على "الخطأ التاريخي" الذي قارفه نايف حواتمة بانشقاقه على الجبهة الأم في 22 شباط 1967 ، ومنذ فجر النكسة ، والتحول من الفكر القومي إلى الماركسي ، ومن حركة القوميين العرب إلى الجبهة الشعبية ، ظل حبش محكوما في مواقفه وسياساته بهذين المحددين ، وظل حراكه محصورا بين هذين القطبين الوطني واليساري. إلى أن داهمت "البيريسترويكا" الحكيم حبش وهو في ذروة الانتشاء بما حققه على هذا طريق التحول لحزب ماركسي لينيني ، وكانت مسألة الإشهار عن اكتمال التحول إلى هذا الحزب العتيد والمنتظر ، هي الوظيفة الأولى للمؤتمر الوطني الخامس للجبهة ، لكن سؤ الطالع كان يكمن هنا: الجبهة تكمل تحولاتها النظرية والفكرية فيما العالم برمته ، يغادر الماركسية والشيوعية ، وينهار الاتحاد السوفيتي ويسقط جدار برلين. أحلام حبش المتكسرة ، ورهاناته التي لم تتحقق طيلة سنوات عمره المديد ، هي أحلام أجيال بأكملها ، ورهانات ملايين الفلسطينيين والعرب الذين أحبوه واتبعوه في مراحل ومحطات مختلفة من حياته ، وهي ما يجعل رحيله الصامت والهادئ اليوم ، مؤلما وتراجيديا...رحم الله جورج حبش ، ولنا زيارة أخرى لإرثه وتجربته.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد