مجاهد .. في رقة النسيم

mainThumb

27-01-2008 12:00 AM

اكبر تحد يواجه كاتبا ايا كان لحظة محاولته البوح بمشاعره ازاء حدث جلل او مصاب كبير هو كيف يكتب دون ان يبدو الأمر وكأنه توظيف للمأساة من اجل كتابة مقال او حتى خاطرة او قصيدة؟

هذا بالتحديد هو الهاجس الذي سيطر عليّ وانا اتصدى لمهمة صعبة على النفس ، ألا وهي رثاء عمي المرحوم الاستاذ كامل الشريف الذي استجاب لنداء ربه ورحمته تعالى يوم الاربعاء الماضي بعد مسيرة حافلة بالعطاء والانجاز.

ومع ذلك سأجاهد حزني واكتب:

بدءا اقول ، انني لا اكتب عن المرحوم العم كامل الشريف انطلاقا من "رابطة الدم" التي تجمعنا ، ولكن لانه كان بالنسبة لي معلما وملهما في شؤون الحياة كلها ، فلطالما اعجبت وانا استمع اليه حتى في الجلسات العائلية وهو ينهل من التراث العربي والاسلامي بالطلاقة والكفاءة ذاتها التي يتحدث بها عن موليير وشكسبير وغوته وغيرهم من اعلام الثقافة العالمية.

لقد كان ، يرحمه الله ، يأسرني التزامه الصارم والدائم بمبادئه وبالافكار التي عاش وناضل من اجلها ، لكنه كان - مع ذلك - ابعد ما يكون عن التزمت والانغلاق.

ففي الوقت الذي يضيع الكثيرون وقتهم في قشور الدين ، استطاع العم المرحوم ابو اسماعيل ان ينفذ الى جوهر الاشياء دون ان يسمح للتفاصيل والجزئيات ان تشوش على المشهد او تبدد الهدف المنشود.

لقد استطاع المرحوم العم أبو إسماعيل ان يقدم نموذجا "للمسلم الحضاري" الذي يحنو على الصغير ويحترم الكبير ويعامل المرأة برفق واحترام ، وكان يبادر دائما الى تفقد الاهل والاصدقاء.

كنا نرقب جميعا طلته البهية في صباحات الاعياد حيث يداعب الاطفال ويسأل عن احوال العائلة ليس من باب المجاملة فقط ولكن من موقع الحرص والتأكد ان الامور جميعها على ما يرام.

لقد كان يرحمه الله رقيقا كالنسيم رغم تاريخه الجهادي الحافل وقيادته لجحافل الثوار وانخراطه في مواجهات عسكرية جريئة في مطلع شبابه.. وكثيرا ما كنت اتساءل: كيف استطاع هذا الانسان الرقيق ان يجمع بين الابتسامة الدائمة وبين تلك المعارك التي حققت له سمعة عالمية كقائد عسكري لا يشق له غبار؟

لقد كان العم ابو اسماعيل ذا شخصية آسرة ، وكان يفرض حضوره المحبب اينما حل ، وقد يختلف الناس على امور كثيرة ، ولكنهم يلتقون على محبته واحترامه. واذا كانت اعلانات النعي والتعزية تكشف شبكة علاقات الراحلين عن هذا العالم بالناس وبالمجتمع ، فقد التقى على رثاء العم الفقيد "ابي اسماعيل" اشخاص ومسؤولون لا يمكن ان يجتمعوا حول اي امر آخر. فبالاضافة الى اجماع الاسرة الاردنية الواحدة على نعيه ، فقد رثته فتح مثلما رثته حماس ، ونعاه الاخوان المسلمون كما رثاه رئيس مجلس الاعيان ، ونعاه المجلس المركزي الارثوذكسي في الاردن وفلسطين كما رثاه مجلس المنظمات والجمعيات الاسلامية في الاردن ، وعبر مجلس ادارة البنك الاسلامي عن الحزن بفقده باعتباره عضوا لمجلس ادارته تماما كما نعته يتيمات جمعية حمزة بن عبدالمطلب التي كان يرأسها ، ونعاه نادي "الجولف" بنفس الصدق الذي رثاه به المجلس الاسلامي العالمي للحوار،،

فكم شخصا يجمع عليه هؤلاء ، وما عدد المناسبات التي تلتقي عليها هذه المؤسسات وتتفق في الرأي؟

هذا هو سر عبقرية العم المغفور له ابي اسماعيل ، وهنا يكمن مفتاح شخصيته ، فهو من القلة القادرين على التوفيق بين المواقف وايجاد القواسم المشتركة ونقاط التلاقي.

لقد كان ابعد ما يكون عن الحدية والتصلب في طرح الاراء والافكار. اما عن عفة اللسان فحدث ولا حرج ، فلم اسمع منه في يوم كلمة قاسية او جارحة بحق احد. وهذا لا يعني انه كان يتغاضى عن الاخطاء.. ولكن نظرة منه او إلماحة كانت اكثر من كافية لنعرف انه غير راض عن هذا الموقف او ذاك.. وكثيرا ما تساءلت عما اذا كانت الدبلوماسية التي عمل بها سنوات طويلة هي التي اضفت عليه هذا الوقار المحبب وعفة اللسان ، ولكن من عرفوه في مراحل الشباب قالوا ان هذه الصفات هي احدى ثوابت شخصيته منذ طفولته ، ولعل العمل الدبلوماسي يكون قد اسهم فقط في تعميق هذه الصفات وصقلها.

لقد كتب وقال الكثيرون في الفقيد الكبير كشخصية سياسية عامة ، ولكني حرصت فيما تقدم على ان اتحدث عنه من الزاوية الانسانية وحتى الشخصية البحتة ، واحسب ان الفصل بين البعدين الشخصي والعام اقرب ما يكون الى المستحيل خصوصا في حالة العم أبي اسماعيل.

ومع ذلك ، فان صورة ذلك الشاب الصغير الذي هب من تلقاء نفسه لانقاذ فلسطين لا تمحي من ذاكرتي ، فقد غادر من اجل ذلك بلدته الصغيرة الوادعة المجاورة لفلسطين لا يلوي على شيء عازما على الجهاد لنجدة الاشقاء مهما كانت الاخطار.. وعبر السنوات الثمانين التي عاشها ، اجزم ان حلمه لم يتغير وان تكن الادوات فقط قد تبدلت ، فقد حمل القلم بديلا عن السلاح ، واستبدل المواجهة بالموعظة الحسنة ، ولكن حلمه بقي كما هو ولم تلن له عزيمة او يعتريه الوهن ، بل ظل وفيا لمبادئه حتى اخر يوم.. رحمك الله يا عم رحمة واسعة جزاء ما قدمت لوطنك وامتك.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد