الترجمات: لغسل العقل أم للتواصل مع الحضارات؟! .

mainThumb

26-01-2008 12:00 AM

كنّا، نايف كريّم وأنا، نتجاذب أطراف الحديث في أحد أروقة فندق "أبراج الإمارات" عندما مر بنا توماس فريدمان في طريقة لإلقاء كلمته في المؤتمر الإعلامي الذي دُعينا جميعا لحضوره عام 2003. عرّج فريدمان لإلقاء التحية، فقدّمت الزميلين لبعضهما، من غير أن تفوتني فرصة مراقبة اللحظة والتعابير المصاحبة.

قلت "هذا نايف كريّم, مدير تلفزيون المنار، يا توم.. وهذا صاحبنا توماس فريدمان يا نايف"، في معرض تقديمي لهما. تبادلا التحية كأي صحافيين محترفين يتعارفان لأول مرة، وذهبنا جميعا الى القاعة لسماع ما كان لدى صاحب العمود الشهير في الـ"النيويورك تايمز" ليقوله.

تحدث فريدمان عن دوره في إطلاق مبادرة الأمير عبدالله بن عبدالعزيز في السنة التي سبقت عقد مؤتمرنا في دبي والتي عرفت لاحقا بـ"خطة السلام العربية". وعندما جاء وقت السؤال والجواب وقف مشارك من الخليج العربي (أعتقد أنه كويتي) واتهم فريدمان، بطريقة شبه مباشرة، بتلقي الهبات من أصدقائه العرب، حيث كانوا يقدمون له الطائرات ليتجول بها في ربوع بلادهم وينتقل بين عواصمها ومدنها، حسبما قال المشارك.

الكلام أثار حنق فريدمان بل إنه أجّج مشاعره الى درجة أخذ فيها يصرخ مدافعا عن نفسه وعن كرامته الصحافية، قائلا إن صحيفته هي التي دفعت تكاليف مشاركته في هذا المؤتمر وزياراته الأخرى لدول المنطقة، وليست أية جهة أخرى، وإنه لا يقبل الهبات، وهو صحافي وكاتب مستقل لا يشق له غبار، وحمل نفسه وخرج من القاعة وهو يصب جام غضبه على ما قاله المشارك "الكويتي" وعلى آخرين ممن تقوّلوا عليه خلال الجلسة.

لا أكشف سرا أو أقدم معلومة جديدة هنا، فلقد نشرت الصحف الخليجية هذا الخبر في وقته وإنما أورد القصة كمقدمة للحديث عن نظرتنا للصحافيين والمعلقين الأجانب والتفاعل مع كتاباتهم وعن ما تأخذه منها، من طريق الترجمات، وننشره في صحفنا ومجلاتنا.

لي تجربة غنية في هذا الشأن، فأنا أُصن?Zف من بين رؤساء التحرير المدافعين عن ضرورة تضمين الترجمات في الصحف العربية.. وأنا كذلك فعلا.

لا ضير في أن أقول لكم في هذا السياق إنني مع ترجمة أكبر قدر من الأعمال الأجنبية وعرضها على القراء العرب، ولكن بشرط أن تكون هذه المواد، وفي حالتنا هذه التعليقات والمقالات الصحافية، جيدة ومفيدة جدا.. إن لم تكن ذات صلة بالكامل وراقية.

انتقد "الرأي" الكثيرون عندما كنت رئيسا لتحريرها لنشرنا مقالات لفريدمان وغيره ووضعها على الصفحة الأخيرة من جزء الصحيفة الثاني. لا أريد المبالغة في تقدير عدد المنتقدين، ولكن من الناحية الأخرى لا أريد تجاهل الآخرين، وهم فعلا كثر، ممن امتدحوا الترجمات بعد أن أفادوا واستمتعوا بما كنا ننشره منها، ليس فقط لكتاب أميركيين، ولكن لإنجليز ولفرنسيين وإسبان وليابانيين ولكتاب عالميين آخرين أيضا.

من يتذكر بينكم تجربة "الرأي" ونشرها لملحق "لوموند ديبلوماتيك" يدرك أن لـ "الشراكات الصحافية" الهادفة، إن كانت بين عرب وعرب أو عرب وأجانب، فوائد ومنافع لا تقف عند الانتقادات العدمية والتشرنق الإقليمي أو المواقف التي تدعي القومية وهي منها براء، فنحن بشر قبل أن ننتمي لجغرافيا معينة ولغتنا إنسانية قبل أن تكون شرقية أو غربية، ونستطيع كلنا أن نكون عربا وبشرا في الوقت ذاته.

لم أبتدع الترجمة أو نشر المقالات أو الأعمال المترجمة لكي أكون أول أو آخر المدافعين عنها، ولكن للحقيقة يجب القول إن لها فضائل تتعدى خدمة المبادئ الإنسانية وتعميق الحوارات البشرية.

أتحدث هنا عن تحقيق أغراض استراتيجية لبلداننا ولشعوبنا العربية وإشباع الرغبات الحضارية لديهم من أجل التقدم والنهوض وسبر أغوار المعرفة، إما من خلال الاطلاع على كل ما هو جديد وحديث في هذا العالم أو من حيث ضرورة التواصل مع بقية شعوب الأرض والتعرف على منتوجها العلمي والثقافي والفلسفي.

أتحدث بالعموم، مع العلم بأنني أدرك أن لكل صحيفة خصوصيتها وسياستها في نشر ما تريد من مقالات وترجمات. وما يهمني قوله في هذا الإطار إن ما تحرم قراءك منه يبحثون عنه ويحصلون عليه من مصادر أخرى.

علاوة على ذلك, الترجمات لا تغير من آرائك ومعتقداتك إلا إذا كنت قابلا ومتقبلا لأن تستقبل التغيير وأن تكون جاهزا له، وليس فقط إذا قرأت المقالات والأعمال التي يكتبها غير العرب.

أحد الزملاء رؤساء تحرير الصحف اليومية المحلية والتي تنشر الكثير من الترجمات قال لي بأنه ينشر ما يتفق مع سياسة جريدته من أعمال بعد أن يكون مترجموه قد اختاروا ما يعتقدون بأنها مقالات تنسجم مع خط رئيس التحرير وصحيفته.. ولا بأس بذلك، إلا أن على الجميع أن يدرك بأن المبدأ واحد وهو عدم جدوى الانغلاق وسماع أصداء أصواتنا فقط.. فما يكتبه توماس فريدمان موجه بالأصل الى قراء الـ "نيويورك تايمز" ومنهم بالضرورة اعضاء ادارة بوش (الرئيس نفسه يقول بأنه لا يقرأ الصحف) والكونغرس ورجال الأعمال والجاليات واللوبيات الاميركية المختلفة ومنها الاسرائيلية بالطبع.

قد يكون ببال فريدمان او غيره أن مقالا له قد يترجم الى العربية وُيقرأ من قبل العرب، ولكنه لا يكتب لهم بالذات وإنما لمن يقرأ صحيفته. الهدف الذي ينشده المحررون العرب من وراء نشر المقالات المترجمة إذاً هو اطلاع قرائهم على ما يقوله الاميركيون او الانجليز او اليابانيون لبعضهم الآخر وكيف تؤثر آراؤهم على صنّاع القرار او في صياغة الرأي العام في بلدانهم، وفي هذا منفعة كبرى للمهتم في فهم ما يجري حولنا في هذا العالم, أكثر منه أن تتأثر آراؤنا او معتقداتنا بما يكتبه الآخرون.

صحيفة "القدس العربي" اللندنية تختص في ترجمة أو نشر المقالات المكتوبة بالعبرية. ولصفحتها "أفكار عبرية" شعبيتها بين قرائها، ولهم القوة وحرية الاختيار، ويسجل لهذه الصحيفة أنها تنقل الرأي الإسرائيلي من دون تدخل مهما كان صادما وصلفا وأحادي النظرة. أما صحيفة "الحياة" اللندنية فدأبت منذ فترة غير قليلة على تخصيص صفحتين كل يوم أربعاء أسمتهما "صحافة العالم" يستطيع من يقرأهما أن يتجول في ردهات ما يجري في العالم عبر ترجمات رصينة من الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والصينية واليابانية والإيرانية والعبرية، وسواها. فما مغزى أن ُتنتقد الصحف الأخرى لمجرد نشر ترجمات أخرى على صفحاتها؟

على الجانب الآخر، يجادل خصوم الترجمة بأن الصحف الأميركية مثلا لا تترجم ولا تنشر لكتاب ومؤلفين ومعلقين عرب، وهذا صحيح، ولكن الأصّح أن بعض هذه الصحف تطلب من كتّاب عرب بعينهم أن يكتبوا مقالات خاصة عن قضايا محددة او يقبلوا نشر مقالات لهم يقدمونها لهذه الصحف عندما يرى محرروها ضرورة أو حاجة لذلك. قد لا ترقى هذه الممارسة الى ما نفعل نحن، ولكنها طريقتهم في التعامل مع هذه الأمور.

في الحقيقة إن مؤتمر عام 2003 الذي حضره كريّم (الذي ترك المنار منذئذ) وفريدمان وأنا بين الكثيرين من الإعلاميين والمفكرين العرب والأجانب ناقش في إحدى جلساته موضوع الترجمات هذه، وكان الصوت العالي للمشاركين العرب غير المحبذين لكثرة الترجمة او استعمال منتوجها في ثنايا الصحف، وهذا حقهم.

بيد أن المنطق يقول بأنه في غياب أعمدة الكتاب الأجانب عن صحفنا والتي أخذت بعضها، خصوصا الخليجية الثرية، تطلب منهم الكتابة مباشرة لها ونشر المقالات بعد الترجمة، يكون لزاما علينا أن نبحث عن المقالات ذات الصلة وأن ننشرها تعميقا للمنفعة والفائدة.

لدينا في "الغد" الآن صفحة يومية للترجمات نسميها "كون" وهي جيدة. وسأسعى مع زملائي المحررين والمترجمين، علاء الدين أبو زينة وعبدالرحمن الحسيني، اللذين يشرفان عليها بكل اقتدار، لأن نقويها ونعززها، ليس فقط من أجل منافسة بقية الصحف اليومية، ولديها جميعا صفحات ترجمة محترمة وثرية، ولكن أيضا من أجل الإفادة والاستفادة من قبل قرائنا الذين نعمل لهم ومن أجلهم.

*****

للأخ الذي بعث لي رسالة يطالبني فيها بالكتابة عن تجربتي في "الرأي" ونشرت رسالته في زاوية "رسائل إلى المحرر" الأحد الماضي، أقول إنني في كل مقالاتي تقريبا أذكر شيئا ما.. ليس فقط عن ما اجتهدت في أن أقدمه في "الرأي"، وإنما عن الخبرات التي عايشتها في الصحافة الأردنية خصوصا وفي الصحافة العربية والعالمية عموما، وهكذا يكون الحال في هذا المقال والذي حاولت أن أوضح فيه أننا قمنا بترجمة ونشر بعض مقالات توماس فريدمان ليس لأنه "صديقي" كما كان يعتقد بعض النقاد، وإنما لأنه كان له تأثير كبير في صياغة الرأي العام وعلى صناع القرار الأميركيين، وبالتحديد في فترة ما بعد هجمات 11 أيلول 2001، والتي كانت تنبئ بصراع حضارات طالما تخوفنا منه وحاولنا عدم الوقوع في محظوراته. معركتنا الحقيقية في "الرأي" وفي "الغد" وفي أي مكان هي ضد الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين وضد الذين يساندون العدوان الغاشم على شعبنا هناك، وفي العراق ومع عودة الحقوق والكرامة والحياة الطبيعية لأشقائنا الفلسطينيين في وطنهم ولإخوتنا العراقيين، وأولئك الذين يعيشون خارج الأوطان، ويجب ألا نسمح لأحد بأن يحيدنا عن أهدافنا أو أن ننزلق إلى صراعات لا تخدم مصلحتنا أو مستقبل أمتنا.

george@alghad.jo



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد