شغب: بريمــوس

mainThumb

27-01-2008 12:00 AM

البريموس ، أو بابور الكاز ، كان أكثر الأجهزة التكنولوجية تقدما في بيتنا الطيني ، كان جهازا بالغ التعقيد تلاحقه دوما منظومات متعددة من الطقوس ، طقوس عند ( تعميره) بالكاز... طقوس عند فتح عينه بإبرة البابور ... طقوس عند اشعاله ، طقوس عند استعماله وإعادة تعبئته بالهواء المضغوط ودتشه بالعطاية. طقوس عند إرساله إلى (حنا زاده) لتصليحة وفتح عينه أو تغييرها ، وعند لحم أرجله أو تبديل تغيير جلدة العطاية... طقوس عند استخدامه للطهي والقلي وفرك شعر الرأس فوقه للقيام بعمليات ابادة جماعية للقمل على طريقة الهولوكست. أما الطقس الأهم والأكبر فكان يبدأ فور إطفائه ، إذ تدخل فورا في حالة من التحول المفاجئ في قيم الضغط على طبلة الأذن ، ليتوقف الصوت الخارجي الرتيب ويحل محله ضجيج مريح داخل تلافيف الدماغ.
طبعا توفرت في الأسواق بوابير كانت تسمى (راس ساكت) أو الأخرس ، وهو الذي يعمل بلا صوت ، لكن المرحلة الغازية ذات العيون الثلاث داهمتنا بغتة قبل ان نجرب ذلك الفيلسوف السويدي الجديد. نسيت ان أخبركم ان البابور كان مصنوعا من النحاس وقد استمد اسمه (بريموس) من اسم القرية السويدية التي اكتسحت أسواق العالم بهذا الاختراع العجيب. أول إدمان في حياتي كان على ضجيج الصمت الذي يتركه توقف البريموس عن العمل فجأة ، مما يترك الدماغ في حالة حيرة ويترك بعض الحواس أو المؤثرات تستمر في العمل لدقيقتين تحت تأثير القصور الذاتي.
تغير ظروف الحياة ، خصوصا بعد ان أعطت خالتي غازها القديم إلى (ماما) ، فاقتصرت أعمال البريموس على غلي الغسيل وطهي القمح لعمل السليقة والبرغل ، و(شعوطة) أرجل الأغنام قبل الطبخ ، ناهيك عن تصنيع (العقيدة) لغايات النتف المحلي.
الأسبوع الماضي ، تذكرت إدماني القديم ، فنزلت إلى السوق باحثا عن بريموس جديد (البريموس القديم ما يزال عندي ، لكني خشيت ان يكون معطلا ويصعب إصلاحه خصوصا بعد وفاة مصلح البوابير العظيم حنا زاده. الغريب أني وجدت البريموس في أول دكان دخلته ، فاشتريته فورا وعدت للبيت وقمت بكامل الطقوس وأشعلته.. وحاولت استعادة إدماني القديم.
اكتشفت أولا ، ان البريموس الجديد اقل كفاءة ومصنوع من معادن رديئة ، لعل النحاس ليس واحدا منها ، وان كان يحمل ما يشبه اللون القديم . واكتشفت أني أعيش إدماني السابق على ضجيج الصمت ، ولم اتركه لحظة... فقد صمت كل شيء من حولنا فجأة عام 1967 ، وها نحن جميعا نعاني من إدمان وتسطيل دائمين... لم نخرج منهما حتى الآن.
yghishan@maktoob.com



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد