من اسرار البيان القرآني : فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت

mainThumb

31-01-2008 12:00 AM

كنت عائدا من عملي في الجامعة وزميلي معي ، في طريقنا الى عمان ، كنت منهمكا في قيادة السيارة وهو منشغل بالاتصال بالسيد «ابو فايز» وسمعته يقول له: كيف فولاتك ، كيف حمصاتك؟ ثم يضحك بسرور كبير من اجابات الرجل. قال لي يفسر سروره ذاك بأن «ابو فايز» وهو مزارع في الاغوار يشرف على بستان لزميلي هناك في حوض نهر الاردن ، قال له: النباتات فتحت ، وأعنقت «اي رفعت اعناقها» ، بعد ان كانت ذابلة حزينة.

ثم سمعت زميلي يسأله ، وأنت كيف حالك؟ فضحك زميلي طويلا بسرور بالغ ، وقال له: الحمد لله. دائما ان شاء الله ، تظل سعيدا مشرق الوجه ، شرح بعد هذا الحوار على الهاتف الجوال ، قال لي صديقي الذي بدا سعيدا جدا انه سأله صاحبه عن حاله ، فكانت اجابته: المطر ردّ فيّ الروح ، وأعاد الدم الى وجهي ، بعد ان كان مكفهرا. قلت سبحان الله ، وذكرت قوله تعالى في الآية الخامسة من سورة الحج وهي آية طويلة تتحدث عن بدء خلق الانسان وأطوار خلقه الى ان يرد الى أرذل العمر ، يقول تعالى «يا أيها الناس ان كنتم في ريب من البعث فزنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مُخلّْقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقرُّ في الارحام ما نشاء إلى اجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يردّ الى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج» ، ترى كم صفحة بل كم كتابا تحتاج هذه الاية لشرحها والتعليق عليها وبيان دلالاتها ، وبيان الاعجاز القرآني فيها؟ ولننظر ايضا في قوله تعالى في الآية «39» من سورة فصلت «ومن آياته انك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ، ان الذي احياها لمحيي الموتى ، انه على كل شيء قدير».

كانت الأرض في الاردن العزيز ، قبل اسبوعين ، وما سبقتهما من ايام عديدة ، خاشعة ليس فيها حياة ، ثم جاء الصقيع الجاف فازدادت الأرض يبوسة وصلفا ، واحترقت بعض النباتات كالفول والملفوف والباذنجان والحمص وحتى القمح النابت لتوه ، ذبل وانزوى الى الأرض ، ونتيجة ذلك ذبلت وجوه المزارعين وخفقت قلوبهم واضطربت نفوسهم ان يستمر الامر على هذه الحال ، فيخسروا موسمهم الزراعي الذي فيه حياتهم وتدبير معاشهم. ولكن رحمة الله قريب من المحسنين المؤمنين الذين يتوجهون الى الله بالدعاء ، ولكن حكمة الله ارادت ان يتعلم الناس كيف يكون التوجه إليه ، دون غيره ، جل شأنه وان تتخذ الاسباب اولا ثم يكون الدعاء الى الله بعد ذلك ، فكان فضل الله سريعا ، فنزلت اولا الثلوج البيضاء الناعمة وأزالت موجة الصقيع الجافة ، وموجة البرد الناشف الذي يقتل الانسان قبل النبات وبخاصة الشيوخ منهم ، يقول الشاعر:

اذا كان الشتاء فأدفئوني فإن الشيخ يهدمه الشتاء

ثم جاء الغيث العميم ، وتكاثرت الديم فوق سماء الاردن وأنزلت ماءها العذب فاهتزت الأرض وانتعشت ، واهتزت النباتات وارتفعت اوراقها وأغصانها الى الاعلى ، وجرى الماء في عروقها ، كما جرى الدم في وجوه المزارعين ، وسعدت القلوب واطمأنت ودبت الحياة في كل شيء. أوليس هذا من عجيب صنع الله؟

ما سر هذا الماء الذي في حياة كل شيء ، ويجعل من كل شيء حيا كما يقول الله عز وجل في الآية «30» من سورة الانبياء «وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون».

ما العلاقة بين اطوار خلق الانسان من تراب اولا ثم يكون نطفة فعلقة فمضغة فطفلا فشابا قويا فشيخا في أرذل العمر ، وبين الأرض تكون ترابا هامدا لا حياة فيه فينزل الماء عليها فتشب فخضرة تنبت فيها النباتات والزهور والحبوب والثمار والاشجار ، وينتشر فيها الناس ، والدواب والانعام ، وتدب فيها الحركة والحياة والأمل والسعادة والسرور ، وتكثر الاعمال ويكثر الخير ، وهذا مصداق قوله عز وجل «اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج» فالاهتزاز هو حركة الأرض عند اخراج النباتات ، وليس الاهتزاز يكون من نبتة واحدة ، بل من نبات الأرض كلها ، لان النبات يقول الامام القرطبي في ج 12 من تفسيره ص 13 لا يخرج منها حتى يزيل بعضها عن بعض ازالة خفية فسماه اهتزازا مجازا. وارى ان الآية بحاجة الى بحث علمي أوسع من اهل الجيولوجيا وعلوم الأرض عن بيان حركة الأرض وتشكلاتها عند نزول الماء عليها. وإخراجها للنباتات والحشائش والاشجار والثمار. ثم انظر في قوله تعالى «وربت» اي ارتفعت وزادت ، وهو من الفعل ربا الشيء يربو ربوا اي زاد. ولكنه زيادة في الخير وليس كالربا الذي هو زيادة عن غير طريق الخير والحلال.

والحق ان الأرض تزيد وتربو وتزدهر وتشرق وتنمو ويزيد فيها كل شيء. ويربو فيها كل شيء ، وان مناظر الحصاد وأيام الحصاد ، وجمع الحبوب ، وحياة الناس في تلك الايام تفسر هذه الآية الكريمة «فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت» وان النظر الى كروم العنب واشجار الزيتون وأشجار اللوزيات ومشاتل الزهور في انحاء البلاد يفسر هذه الآية الكريمة ، وان النظر الى حركة الاسواق وتعامل الناس ورواحهم وغدوهم من الارياف الى المدائن ، ومن اعمال الفلاحة الى اعمال التجارة تفسر هذه الآية الكريمة التي رسمت هذه الحياة بكل ما فيها من حركة ومشاعر ومعان بهذه الكلمات القليلة المعجزة الدالة وهذا هو بيان القرآن الكريم الذي لا تنتهي عجائبه والى اللقاء.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد