التدين منتج حضاري واجتماعي؟ .

mainThumb

25-02-2008 12:00 AM

هل يعكس التدين في مستواه من حيث هو متطرف أو معتدل، متسامح أو متشدد، متقدم أو متخلف، منفتح أو مغلق الحالة الحضارية والمستوى الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع؟ لا يحتاج الأمر إلى بحث كبير، ويكفي ملاحظة خريطة وجغرافيا الدين والمتدينين لملاحظة ظاهرة كون التدين منتجا حضاريا وثقافيا يعكس مستوى وحالة الحضارة والمجتمعات، فالمجتمعات المغلقة يكون تدينها مغلقا، والمتعددة الثقافة والمتسامحة تنتج تدينا متسامحا، والمهزومة والمتخلفة تنتج التطرف، والمحتلة تنتج تدين المقاومة والاستقلال، وهي رؤية تنطبق على جميع الأديان والفلسفات بما في ذلك العلمانية والليبرالية، فكما يجب أن يكون هناك تمييز واضح بين الدين والمتدينين وبين الإسلام والإسلاميين، فيجب أيضا التمييز بين العلمانية والعلمانيين وبين الليبرالية والليبراليين، وكما أن الدين لا يشكل بالضرورة شرطا للتقدم أو التخلف فكذلك الأمر بالنسبة للعلمانية والليبرالية.

ونلاحظ في تاريخ الحركات والجهود الإصلاحية في الوطن العربي أن العلمانية والليبرالية بدأها علماء ومفكرون إسلاميون مثل رفاعة الطهطاوي، وعلي عبدالرازق، وخير الدين التونسي، وعبدالرحمن الكواكبي، وبدأ في مرحلة متأخرة الافتراق والاختلاف في الجذور، ويمكن على سبيل المثال ملاحظة أن كلا من لطفي السيد ورشيد رضا كانا من تلاميذ محمد عبده، ولكنهما اتجها فيما بعد في وجهتين تبدوان مختلفتين جذريا في رؤيتهما وفلسفتهما.

وبطبيعة الحال وكما يبدو في التاريخ والاجتماع فإن الدين مرتبط بالمدينة والتمدن، ولذلك فإنه يمكن بالنظر إلى حالة التدين السائدة اليوم وأنماطها واتجاهاتها المختلفة قياس حالة التمدن في مدننا ومجتمعاتنا.

وفي دراسة المسار التاريخي والفكري والاقتصادي للعالم الإسلامي كما فعل عبدالباسط قمودي وهالة الورتاني في كتابهما الذي صدر مؤخرا بعنوان "إسلام عصور الانحطاط" يمكن ملاحظة كيف انعكس الانحطاط السياسي والاقتصادي للمسلمين على الممارسة الفكرية والتطبيقية.

فقد تسرب الجمود والانحراف والتخلف إلى الحياة الفكرية والثقافية للمسلمين مع تخلف العالم الإسلامي، وتشظيه سياسيا وتراجعه اقتصاديا، فالنموذج التطبيقي للإسلام بدأ بعد مرحلة التأسيس يتحول إلى تجربة تاريخية إنسانية تسهم المجتمعات والتحولات والبيئة المحيطة والأحداث في تشكيلها، ومن ثم كانت تنشأ أحكام فقهية وقراءات للنصوص الدينية قائمة على التفاعل مع البيئة والتحولات الزمنية الطبيعية وأحيانا الكوارث والهزائم.

وهكذا فإنه تشكلت الظاهرة الدينية بين حيزين: حيز المقدس الذي يكسبها سمة التعالي، وهو حيز يحكمه الفعل الإلهي، وحيز الدنيوي الذي يحكمه البشر. فتوضع الظاهرة حينئذ في مسار تاريخي، فإذا هي منظومة عقدية تنشأ عنها حركة تاريخية هي بالأساس نتاج أنماط من التمثلات البشرية التي تحركها غالبا معطيات اجتماعية متضافرة وتخضع الظاهرة الدينية عندها لمقتضيات الحدث التاريخي الذي تتضافر عدة معطيات في توجيهه.

فعندما انبثق الإسلام من الجزيرة العربية خلال القرن السابع الميلادي وتوسع ليبلغ أقصى مدى له من أفريقيا الشمالية وجزء من أفريقيا السوداء إلى أجزاء كبيرة من آسيا وصولا إلى سومطرة، وإلى أوروبا الشرقية وصولا إلى أبواب فيينا في ظل الإمبراطورية العثمانية، وهي فترة طويلة امتدت خمسة عشر قرنا، في هذه الفترة تشكل التاريخ الإسلامي، وهو تاريخ كان فيه الإسلام وما زال المحرك الأساسي في إنتاج أنماط الوجود في المجتمعات المسماة الإسلامية، وهو العصر الذهبي للحضارة الإسلامية.

وهنا التاريخ ينقسم إلى فترتين: فترة أولى هي العصر الذهبي الذي يمتد إشعاعه ليشمل كل المجالات سواء كانت الدينية أو السياسية أو الاقتصادية أو الفكرية، وهي الفترة التي بلغ فيها كل شيء مداه الأقصى.

والفترة الثانية التي تنطلق من الأوج والزخم الإبداعي في حركة انحدار مرعبة وسريعة انتهت إلى اللاحركة والركود، وهي الفترة التي توسم بعصور الانحطاط وفيها أُفلتت الصورة المثالية لإسلام صاف موروث عن هذا الزمن.

وقد يحدث في بعض الحالات التاريخية أن تمر الأمة بحالة من الهزائم السياسية ولكنها تكون في حالة توهج وإبداع حضاري وفكري، ولكنه تناقض يمكن رده إلى قوة المجتمع والرصيد التاريخي، وإذا أمكن استرجاع القوة السياسية والاقتصادية فتواصل المجتمعات تقدمها وعطاءها الحضاري والفكري ولكن اذا تواصل الضعف السياسي والاقتصادي فيتبعه بالتأكيد انهيار ثقافي وفكري يمتد من التدين إلى الآداب والعلوم والفنون والعمارة والطعام واللباس والسلوك الاجتماعي.

والانحطاط ليس انحطاطا عاما للحضارة وإنما هو تراجع مسّ?Z المجتمع الإسلامي في فعالياته الأكثر حيوية ليستولي بشكل أساسي على نظام الثقافة، ويقلص من الإشعاع الحضاري للدين الذي كان مساهما إلى حد كبير في المسيرة العامة للتاريخ ليس الإسلامي فحسب بل الكوني أيضا.

إن الانحطاط الذي دشنه تشظي الإسلام السياسي هو نتاج معطيات تكاثفت على مر فترات متعددة، ومن هنا فإننا نحتاج فهم الخريطة السياسية للعالم الإسلامي بعد القرن السابع الهجري تاريخ انهيار الخلافة العباسية التام.

فقد شهد القرن الثاني بداية التفكك الدولة الإسلامية التي كانت منضوية تحت حكم خلافة موحدة. وأفرز هذا الوضع الجديد تغيرات كبيرة سواء على الصعيد السياسي أو الجغرافي لينفرط عقد كيان سياسي وديني.

فالخلافة العباسية ظلت في مسار تصاعدي حتى وفاة المأمون (218هـ) في ما بعد أصبحت تعاني من أزمات متعددة مثلت بداية فقدان التوازن الذي كانت إرهاصاته قد بدأت تتشكل منذ الاعتماد على خدمات العناصر غير العربية في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.

وقد شهد القرن الرابع نشوء كيانات سياسية مختلفة انشقت عن مركز الخلافة في بغداد، وهي كيانات تأسس أغلبها مستلهما لدعوة دينية شيعية بالأساس إلى جانب كيانات جديدة أسستها شعوب جديدة أُدمجت في الوجود التاريخي الإسلامي.

أما الدولة العثمانية التي كانت محاولة لاستعادة وحدة العالم الإسلامي، ونجحت هذه الإمبراطورية في تشكيل وحدة نسبية في العالم الإسلامي، وهكذا خضع العالم الإسلامي لسلطة الباب العالي ونجحت الإمبراطورية في إقامة كيان متوازن.

وشهد التاريخ الإسلامي إشعاعا جديدا، وذلك من خلال استعادة النزعة التوسعية الرامية إلى توسع المجال الإسلامي خاصة في الفضاء الأوروبي.

هذا الواقع السياسي للعالم الإسلامي يكشف عن تفكك الكيان الموحد في عصور الانحطاط، وتجزئة دار الإسلام إلى مجالات متنوعة عربية وإيرانية وتركية وهندية وبربرية وأفريقية، مما أحدث شرخا كبيرا في وحدة دار الإسلام التي أريد لها أن تندمج ضمن المعطى الديني.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد